دبلوماسي مخضرم وصاحب خبرة طويلة في حل النزاعات الدولية، ارتبط اسمه بجهود التسوية السياسية في أكثر من منطقة اضطراب عبر العالم، وأخيراً دخل اسمه سجل حائزي جائزة نوبل للسلام، عرفاناً بجهوده في عدة قارات وعلى مدى ثلاثة عقود... إنه الرئيس الفينلندي السابق مارتي أهتيساري الذي منحته لجنة نوبل جائزتها للسلام عن عام 2008. وقد فاز أهتيساري بالجائزة التي تعد أعلى وسام في العالم، نظير دوره في حل عدة نزاعات في آسيا وأوروبا وأفريقيا، لاسيما "عمله على حل الصراعات في كل من ناميبيا وأتشيه وكوسوفو والعراق"، إضافة إلى "مساهماته البناءة في شمال إيرلندا ووسط آسيا ومنطقة القرن الأفريقي"، وفقاً لبيان لجنة نوبل يوم الجمعة الفائت. ويتمتع وسيط النزاعات الدولية أهتيساري بشهرة عالمية واسعة، فقد لعب دوراً مركزياً في عدد من التسويات الناجحة، كمندوب للأمم المتحدة، ثم كرئيس لمنظمة غير حكومية. بدأ أهتيساري نشاطه السياسي في سبعينيات القرن الماضي عندما عين سفيراً لبلده فنلندا في تنزانيا، حيث استطاع أن يربط خيوط اتصال مع "حركة استقلال ناميبيا" (سوابو)، ما شجع الأسرة الدولية على تعيينه رئيساً لبعثة السلام الأممية في ناميبيا عام 1981. وبوصفه ممثلاً لأمين عام الأمم المتحدة، تولى بداية من عام 1987، بالتنسيق مع منظمة الوحدة الأفريقية وحركة "سوابو"، إدارة المرحلة الانتقالية في ناميبيا تمهيداً لاستقلالها عن جنوب أفريقيا عام 1991، وأشرف على 8000 عسكري من القبعات الزرقاء ومئات الموظفين الدوليين، للسهر على أول انتخابات حرة في ذلك البلد. وقام أهتيساري في عام 2000 بتأسيس "مبادرة إدارة الأزمات"، وهي منظمة غير حكومية تعنى بإيجاد وتنمية السلام في المناطق المضطربة، وأشرف من خلالها في عام 2005 على مفاوضات سلام ناجحة بين الحكومة الإندونيسية و"حركة آتشيه الحرة"، حيث ألقت الحركة سلاحها، كما سحبت السلطة المركزية قسماً كبيراً من قواتها المسلحة في الإقليم، مما أنهى حرباً دامت 30 عاماً وأوقعت أكثر من 15 ألف قتيل. وتولى أهتيساري في عام 1999 وساطة اختارته لها أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، لوقف حملة "الناتو" العسكرية على يوغسلافيا مقابل إنهاء عمليات الجيش الصربي في كوسوفو. ومرة أخرى لفت أهتيساري أنظار العالم حين أشرف، بدعوة من حكومة بريطانيا، على عملية ناجحة لنزع أسلحة الجيش الجمهوري الإيرلندي في إيرلندا الشمالية عام 2000. ورغم تلك النجاحات اللافتة، فقد أخفق أهتيساري في الوساطة التي انتدبته لها الأمم المتحدة في العراق قبيل حرب الخليج الثانية. أما بعد عودته الثانية إلى كوسوفو، عام 2005، كمبعوث أممي إلى منطقة البلقان، حيث قاد محادثات بين صربيا وألبانيا حول الوضع النهائي لإقليم كوسوفو، فلم يستطع تحقيق تسوية بين الطرفين، وأعلن الإقليم ذو الأغلبية الألبانية المسلمة، استقلاله من جانب واحد عن صربيا في فبراير الماضي... لكن أهتيساري نفسه هو مهندس خطة الاستقلال التي دعمها الاتحاد الأوروبي، وضمنت حقوق الأقلية الصربية في الإقليم، وطبقت دون إراقة دماء. وفي عودته للعراق، نظم أهتيساري لقاءً بين بعض الزعماء السنة والشيعة في هيلسنكي العام الماضي، دون أن يؤدي ذلك إلى مصالحة وطنية في العراق. لكن أحد المشاركين العراقيين علق على شخصية أهتيساري بالقول إنه من ذلك النوع النادر الذي تشعر بعد لقائه الأول كما لو أنه صديق قديم، يفتقدك وتفتقده، يهتم بك ويحرص على مصالحك أشد الحرص. ولعل التوازن الذي أكسب شخصية الوسيط أهتيساري ثقة كثير من الأطراف المتصارعة، يجد أحد أسبابه في تاريخ السياسة الخارجية لفينلندا نفسها، هذه الدولة الإسكندنافية التي كانت جزءاً من السويد حتى بداية القرن التاسع عشر حين تحولت السيطرة عليها إلى روسيا. لكن الفينلنديين استخدموا ذكاءهم للتحرر من العسف الروسي، فقووا اللغة والثقافة الفينلنديتين، وعملوا على بناء اقتصاد متطور... إلى أن تمكنوا من إعلان بلادهم كجمهورية مستقلة عام 1912. وكانت روسيا الجار الذي يمثل (في آن واحد) مصدر التهديدات والفرص الكثيرة لفينلندا، ففي عام 1939، أي بعد عامين من ميلاد مارتي أهتيساري، قام الاتحاد السوفييتي بغزو الأراضي الفينلندية، مما اضطر هيلسنكي للتخلي عن بعض المناطق، ومنها منطقة "كاريلا"، مسقط رأس أهتيساري، والتي نزح سكانها البالغ عددهم 40 ألف نسمة، وضمنهم أسرة أهتيساري نفسه، إلى مدينة "آولو"، وهناك أنهى دراسته الثانوية ليصبح مدرساً في التعليم الإبتدائي عام 1959، ثم ليتم ابتعاثه كمدرس في باكستان بين عامي 1960 و1963، وبعد عودته سيصبح ناشطاً في المنظمات المهتمة بتقديم العون للدول المستقلة حديثاً والسائرة في طريق النمو. حينئذ كانت فينلندا عاكفة على تطوير علاقاتها التجارية القوية مع الاتحاد السوفييتي، وكانت تنتهج سياسة متوازنة في علاقاتها مع الشرق والغرب، وكثيراً ما لعبت دور الوسيط بينهما خلال الحرب الباردة. في وزارة الشؤون الخارجية بهيلسنكي، اكتسب أهتيساري أكثر الدروس في سياسة الاعتدال والتوسط الناجح لحل الأزمات، فقد التحق بها عام 1965، وبعد ثماني سنوات عينه الرئيس "إيرهو كيكونن" سفيراً في دار السلام، ومن هناك كانت انطلاقة مسيرته الدبلوماسية الناجحة. وحين كان أهتيساري لا يزال يقوم بدوره كوسيط أممي في حرب البوسنة والهرسك عام 1993، كانت فينلندا تمر بأزمة اقتصادية أفقدت ساستها ثقة الناخبين. في تلك الظروف قبل أهتيساري مجازفة الانخراط في سباق الانتخابات الرئاسية كمرشح عن "الحزب الاجتماعي الديمقراطي". خلال ولايته الرئاسية (1994- 2000) شهد الاقتصاد انتعاشاً، وانضمت فينلندا إلى الاتحاد الأوروبي، لكن التحالف الحكومي شهد انقساماً بدأ بانسحاب "حزب الوسط"، وبالخلاف الذي نشب بين أهتيساري ووزير الخارجية. لكن أهتيساري واصل دوره كوسيط في بعض الأزمات الدولية، لاسيما حرب البلقان التي تباحث حولها مع الرئيس اليوغسلافي ميلسوفيتش أكثر من مرة. أما بعد انتهاء ولايته الرئاسية، فاتجه أهتيساري من يوغسلافيا، إلى القرن الأفريقي كمبعوث أممي من أجل الأزمة الإنسانية هناك (2003)، ومنه إلى أندونيسيا، ثم البلقان مرة أخرى، ومنه إلى العراق ثانية... وباحتساب هذه المحطات المتتابعة في حياة أهتيساري، كان مرشحاً قوياً للفوز بجائزة نوبل منذ عام 2005، عن دوره في آتشيه وناميبيا وكوسوفو، لكن الجائزة منحت للوكالة الدولية للطاقة الذرية ومديرها محمد البرادعي، ثم رُشح لها في عام 2006 فكانت من نصيب البنغالي محمد يونس، أما عن عام 2007 فمُنحت مناصفة بين آل غور واللجنة الدولية للتغيرات المناخية، ثم أخيراً رست على اسم آخر ليتذكر العالم بعض الأفضال التي بذلها دبلوماسي عتيق لا يمل من ذرع الكرة الأرضية، مجيئاً وذهاباً، بين أزمة وأخرى... هو مارتي أهتيساري! محمد ولد المنى