لصديقي روب واتسون، رئيس شركة EcoTeck العالمية قول شهير عن الطبيعة مؤداه أن "الطبيعة ليست أكثر من مركب من الفيزياء والبيولوجيا والكيمياء. ولهذا السبب، فإنه لا يمكننا أن نغير طبيعتها، ويستحيل علينا أن نرشوها أو أن نتملقها بحلو اللسان، كما ليس بوسعنا أن نتجاهلها في ذات الوقت. وهي تفعل بالمناخ وفق ما تمليه عليها قوانين الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا. وهي آخر من يغضب ويضرب، ولكن حذار من غضبها وضربتها حين تفعل". ولهذا القول صلة ما بما يحدث في الأسواق المالية اليوم. فهي في جوهرها مدفوعة بمشاعر الخوف والجشع، وترمز في جميع حالاتها إلى التوازن الدقيق بين هذه المشاعر. وعلى المدى البعيد ليس بوسعنا أن نغير طبيعتها، فهي محكومة في سلوكها بقوانينها الخاصة، تمضي إلى حيث تشدها مشاعر الجشع والخوف. وهي شأنها شأن الطبيعة: آخر الغاضبين وأقوى الضاربين حين تغضب وتضرب. فما الذي أرمي إلى قوله هنا بهذه المقارنة؟ القصد أننا لم نصل إلى ما نحن فيه، إلا لأننا تمادينا في إسرافنا الائتماني... وها نحن ندفع ثمن تمادينا. ولكونه حفل الصخب الائتماني الأكثر إسرافاً من نوعه عالمياً، فلا بد أن يجرف معه الكثير من الأموال عالمياً أيضاً. والذي نشهده اليوم، إعادة تقييم وتسعير لا ترحم، لكل أصل من الأصول الاقتصادية العالمية، يواجه فيها كل بنك وسند وكمبيالة وسهم مالي، بحقيقة قيمته في عالم ما بعد الصخب الائتماني هذا. وعلينا أن نتساءل: لماذا أحجمت البنوك عن استئناف تمويلها للأفراد والنشاط الاستثماري، رغم إعلان الكونجرس عن إجازة الخطة الخاصة بالإنقاذ الاقتصادي؟ تتطلب الإجابة عن هذا السؤال، العودة إلى بدايات المشكلة وجذورها. فعقب انهيار حائط برلين، اتجهت الاقتصادات العالمية جميعها تقريباً صوب النمط الرأسمالي، الذي انتهى بالعالم إلى كوكب غارق برؤوس الأموال الباحثة عن الاستثمارات. ولم يستغرق مخططو ومهندسو السياسات المالية حينها، وقتاً طويلاً في كيفية تحويل الرهن العقاري المخصص للبيوت، أو الديون التجارية، من مجرد معاملة مالية بين الفرد والبنك المحلي القريب منه، أو بين الشركة المعينة ومجموعة البنوك التي تتعامل معها، إلى ظاهرة مالية أوسع انتشاراً وأكثر تجزئة مما نتصور. والجانب الإيجابي في منحى ديمقراطية التمويل هذه، أنها كانت سبباً في حدوث نمو اقتصادي عالمي باهر. وبفضله تمكن مزيد من الأفراد من الخروج من دائرة الفقر، بل اغتنى الكثيرون في زمن قياسي. لكن وبسبب العائدات المجزية للنشاط المالي، دخل إلى حلبة بيع المنتجات المالية وتسويقها من ليس مفترضاً له أن يكون طرفاً فيها. وضمن هؤلاء، اقتحمت بنوك وشركات تأمين مجالاً ما كان يفترض لها الخوض فيه، بحكم عدم معرفتها به. أما الشركات المتعاملة معها، والتي كان لا ينبغي لها الاعتماد على البنوك والمؤسسات المالية المتعاملة معها، في تنمية رؤوس الأموال، فقد فعلت وتوسدت عليها بالكامل. عليه، وما أن أعسر بعض هذه الديون بالضرورة، حتى عمت عدوى الإعسار النظام المالي كله. وبالنتيجة انتهت المؤسسات المالية والبنوك إلى الإحجام عن التمويل والإقراض، بسبب جهلها بقيمة أصول المؤسسات الراغبة في الاستدانة أو الحصول على التمويل منها. وكان المظهر الطاغي على الاهتمام خلال الأشهر القليلة الماضية، هو صياغة الخطط الحكومية الرامية إلى تمكين البنوك من استئناف تمويل وإقراض النشاط الاستثماري مجدداً. غير أن السوق لا ينتظر، ولا يكف عن القول إلى البنوك والشركات المالية العملاقة: "نعتقد أن دفاتركم ومستنداتكم المالية تحوي على الكثير من النفايات، وما لم تقوموا بإعادة تسعيرها وتحديد قيمتها الحقيقية وفقاً لأسعار اليوم، فسنتولى نحن القيام بهذه المهمة عنكم، سواء كانت إعادة تسعيرنا عادلة بالنسبة لكم أم لا... إن عليكم أن تدركوا أن السوق سيمضي في طريقه ويفعل ما يفعله بصرف النظر عنكم". إذن كيف يمكن التخفيف من وطأة هذه الأزمة؟ لا بد من فعل شيء ما، على حد قول "ديفيد سميك"، المحلل الاستراتيجي المالي ومؤلف كتاب "العالم المحدب". ويرى هذا الخبير المالي أنه لا بد من إعادة هيكلة جميع المؤسسات المالية المعنية، بحيث تتمكن من ّ"تنظيف" موازناتها قبل إعادة تمويلها ورسملتها. ولا بد من إعادة هيكلة البنوك وشركات التأمين، وإنشاء ائتلافات فيما بينها، أو أن تترك لتموت. فالواجب هو أن تقوم هذه المؤسسات بإعادة تقييم وتسعير الأصول المعسرة المسمومة هذه وحذفها من دفاترها وموازناتها. أما الدور الحكومي فيتمثل في توفير شبكة من الضمانات المالية للبنوك الناجية من الأزمة، تمكنها من توخي الأمانة في إعادة تسعير أصولها، ومن ثم إعادة رسملتها وتمكينها من استئناف أنشطة التمويل والإقراض. وهذا هو الهدف النهائي الذي لا بد أن تصل إليه البنوك والمؤسسات المالية، إن كان للاقتصاد القومي أن يواصل نموه. وفي لقاء له مع قناة CNBC يوم الجمعة الماضي، قال "وارن بافيه"، المستثمر ورجل الأعمال الخيرية الأميركي المعروف: لست أدري كيف يكون أداء الأسواق المالية خلال الشهر القادم أو الستة أشهر المقبلة. غير أن الذي أعلمه جيداً هو أن اقتصادنا سوف يستعيد عافيته بعد مدة، وسوف يكون أداؤه جيداً للغاية، سواء على المستوى القومي العام، أم على صعيد الذين يملكون نصيباً منه. توماس فريدمان كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"