في ذات هذه القاعات في مدينة فرانكفورت وقبل أربع سنوات كانت أصوات شاعرات وشعراء عرب تقرأ آخر ما نبضت به أقلامهم. وكان مثقفون ومثقفات من كل البلدان العربية قد التقوا على هامش معرض فرانكفورت للكتاب الدولي الذي حلت عليه الثقافة العربية ضيف شرف، وفيه ناقشوا قضاياهم وهمومهم أمام جمهور ألماني محظوظ بوجود هذه التظاهرة الثقافية الفريدة كل عام. في هذه القاعات نفسها تأتي اليوم تركيا بكُتابها وكاتباتها، بشعرها وثقافتها، بقضاياها وهمومها، لتكون ضيف شرف هذا اللقاء السنوي الثري. بعد الثقافة العربية كانت قد جاءت الهند وجاءت كوريا الجنوبية أيضاً كل منهما لتعرض ما تحتويه الثقافة والكتب والسجالات الملحة إنْ في أوساط نُخبها أو شرائحها الأوسع والعامة. واحد من المنتديات الثقافية الافتتاحية للتظاهرة التركية هذا العام عُقد في قاعة المدينة وسط أحد الأحياء القديمة الذي أعيد بناؤه وترميمه بمعمار يعود للقرن الثامن عشر، مُخادعاً زوار المدينة ممن يظنون للوهلة الأولى أنهم أمام حي قديم ما زال على قِدمه. اللقاء الافتتاحي جاء تحت عنوان "الشرق المُتخيل، الغرب المُتخيل: التفكير عبر الحضارات"، وبنكهة تركية مركزة إلى جانب نخبة ألمانية وغربية مهمومة بكسر الثنائية الاستقطابية التي ما تزال تكرس الحدود وترفض أطروحات التجسير. والحال أن الملل والتكرار قد يكونان أول ما يُلح على الذهن عند قراءة عنوان اللقاء: مرة أخرى ولقاء آخر يريد أن يخترق الواقع العالمي البشع القائم على الضغينة والأنانية والصراعات التي لا تنتهي، عبر مقولات حالمة وتأملات مثقفين طوباويين. لكن خصوصية هذا اللقاء نبعت من خصوصية تركيا في عالم اليوم، موقعاً، وثقافة، وهموماً، وتحديات. وهذه الخصوصية المثيرة مُستفزة دوماً للتفكير وتوفر ثراء في النقاش وتطرح دوماً أفكاراً جديدة، أو تجدد أفكاراً قديمة، بأشكال متنوعة. في كلمته الافتتاحية العميقة حول الشرق المُتخيل والغرب المُتخيل تساءل الكاتب التركي الشهير مرتان مونغان عن تعريف هذه الأوصاف ومن وضعها وبأي اتفاق؟ والشرق شرق بالنسبة لمن، ولأي جهة؟ والأهم أيضاً في هذا التعريف وما يقاربه من تعريفات هو موقع الزمن و"تصنيع الآخر" والتراتبية في كل هذه المفاهيم. ليس الشرق والغرب فقط هما المتخيلان بل أيضاً النظرة التي تتصورهما، وأهم تمثيل هو حركة "الاستشراق" التي خلقت شرقاً ذا سمات غرائبية في مخيلة الغرب. لكن هذا التخليق المصطنع ليس هو الاختلال الأساسي في الاستشراق بل ارتباطه العضوي بعلاقات القوة وخدماته الوظائفية في السياق الاستعماري. ربما يمكن القول إن تصور الآخر والنظرة إليه والكتابة عنه تتضمن أقداراً متفاوتة من التخليق والتوهم والتعميم في كثير من الأحيان. وفي بعض الأحيان ومجالات الكتابة الأدبية والرسم والفنون التعبيرية قد تشكل تلك الإضافات في بعض الأحيان آفاقاً جمالية وخيالاً مفتوحاً. لكن خطرها يتبدى عندما تنسحب مثل هذه التوهمات والتخليقات إلى مجال الكتابة التاريخية مشتغلة على تكريس تقسيمات نمطية إنثروبولوجية أو عنصرية. النقاش الأهم والأبرز في تخيل الشرق وتخيل الغرب كان إزاء موقع تركيا ونظرتها لذاتها وهويتها وانتمائها. أين تقع تركيا اليوم بعد أكثر من سبعين عاماً على المشروع الكمالي أرادها جزءاً من الحضارة الأوروبية؟ "مونغان" تهكم على فكرة "الجسر" وأن تعتقد تركيا نفسها القنطرة بين الشرق والغرب. فهي ما تزال في حالة بحث وتعريف ذاتي. وهو مُحق في النظرة المُتشككة إزاء نظرية "الجسر". ذلك أن تركيا القلقة الآن لا تستطيع القيام بدور صلب وثابت كذلك الذي يتطلبه "الجسر". وما يمكن أن يُضاف هنا هو القول إن النقلة الحقيقية من موقع تركيا اليوم إلى "تركيا الجسر" سوف يتحدد بشكل كبير مع الموقف الأوروبي من طلب تركيا عضوية الاتحاد الاوروبي. إذا مُنحت تركيا تلك العضوية فإن التوزيعة المُتوهمة بين الشرق والغرب تكون قد دخلت نهاياتها المفاهيمية. وعندها يمكن لتركيا، البلد المسلم تاريخاً وسكاناً، أن تكون الجسر بين تاريخين وجغرافيتين وموقعين حضاريين. أين هو الشرق، وأين هو الغرب؟ وأين هو المركز الذي تنتسب إليه هذه الجهات بأي حال؟ هل الشرق هو شرق الولايات المتحدة وشرق أوروبا؟ وأين يبدأ؟ أيبدأ بتركيا، بالشرق الأوسط؟ وهل ينتهي بهما أم بالهند وبالصين، وأين تقع أفريقيا وبقية آسيا في هذا التصنيف التعسفي؟ وأين هو الشرق في حقبة صراع الحرب الباردة، ألم يكن الاتحاد السوفييتي قلبه؟ وأين هي روسيا اليوم، أهي في الغرب أم في الشرق؟ والأهم من كل تلك الأسئلة، ربما، هو السؤال الاستنكاري عن الفرضية المُستبطنة هنا والتي تفترض شرقاً منسجماً متناغماً (إن وجد) مقابل غرب منسجم ومتناغم هو الآخر (وإن وجد). إن كانت تركيا في الشرق فهل أوجُه الشبه بينهما وبين أفغانستان التي في الشرق أيضاً (بحسب التقسيم) أكثر من أوجه الشبه بينها وبين جنوب أوروبا ودول المتوسط؟ وهل تتشابه قبرص مع فنلندا أكثر مما تتشابه مع لبنان وسوريا؟ في الجغرافيا والثقافة والسكان تتداخل هذه الحدود ويتبدَّى تصنيف الشرق والغرب مصطنعاً إلى درجة كبيرة. لكن في السياسة والحرب تزداد تلك الحدود بروزاً وشراسة، وتظهر سياسة حربية باطشة. بيد أنه وهنا مرة أخرى لا يظهر لنا الغرب موحداً كما الفرضية الكلاسيكية الافتراضية، ولا الشرق مثله واحداً موحداً. فالحروب على "الشرق" لم توحِّد "الغرب" بل هناك أطراف وجهات وحكومات ومثقفون ونخب ومنظمات ورأي عام في "الغرب" وقف ضدها. كما أن نفس تلك الحروب لم توحد "الشرق" ضدها، فهناك أطراف وجهات وحكومات ومثقفون ونخب ومنظمات ورأي عام في "الشرق" وقفت معها ورحبت بها. إذن حتى الموقف السياسي والحرب نفسها لم تعد مميزاً يتمكن من فصل "شرق" ما عن "غرب" ما. هناك تداخل مثير وكثيف يربك كل التصنيفات الكلاسيكية. تركيا القلقة والمُحتارة في تعريفها الشرقي والغربي واجهت على مدار عقود ماضية وما تزال تواجه السؤال الكبير الذي قد يكون أساس فكرة "الجسر" إن نجحت في تقديم الجواب عليه والنموذج لبقية الدول والمجتمعات الإسلامية. السؤال هو عن موقع الدين من السياسة وشكل الاجتماع السياسي، وشكل الدولة. في الحقبة الأتاتوركية الطويلة أزيح الدين عن السياسة، وحددت له أدوار ثانوية إن في تشكيل الهوية التركية، أو كمكون تأسيسي خلفي للقومية التركية خاصة إزاء القوميات الأوروبية. لكن حُظر عليه الاقتراب من المجال السياسي والحكم. لكن اختلف الوضع منذ سنة 2002 وتسلم "حزب العدالة والتنمية" للحكم، وهو الحزب ذو الخلفية الإسلامية الذي تتزعمه قيادات معروفة بتاريخها الحركي الإسلامي الطويل. صحيح أن الحزب لا يعتبر نفسه إسلامياً، كما أن الشعارات والدعاوى الإسلاموية الكلاسيكية التي تزدحم بها برامج الحركات الإسلامية الأخرى تختفي من برنامج الحزب، إلا أن الشيء الأكيد هو التغير الجوهري الذي أصاب المشهد السياسي التركي والأسس الكمالية التي قام عليها. تركيا "حزب العدالة والتنمية" وما بعده هي تركيا ما بعد العلمانية الأتاتوركية الصارمة، وهي تركيا ما بعد الإسلاموية التقليدية الأربكانية. نجاح تركيا في صوغ معادلة سياسية تتوسط بين "الما بعدين": ما بعد العلمانية، وما بعد الإسلاموية، يقوم عليه نجاحها في تقديم النموذج ولعب دور "الجسر" المستقبلي.