شهدت بداية هذا الأسبوع، العديد من الفعاليات والأنشطة حول العالم، إحياءً لذكرى اليوم العالمي للصحة العقلية (World Mental Health Day)، الذي يحل كل عام في اليوم العاشر من شهر أكتوبر. وتأتي احتفالات هذا العام في وقت تعصف فيه الأزمات بالمؤسسات المالية العالمية، وتشهد فيه أسواق المال أدنى مستوياتها منذ سنين وعقود. وعلى رغم أنه من الممكن استخدام الأرقام والرسوم التوضيحية، للتمثيل والتعبير عن الخسائر والانهيارات الاقتصادية، إلا أنه من الصعب تحديد حجم العبء النفسي والضرر الصحي، الناتَجين عن الأزمة المالية العالمية الحالية. هذه العلاقة اتضحت بشكل جلي، مع نشر إحدى المنظمات البريطانية الخيرية العاملة في مجال الصحة النفسية (Rethink)، لنتائج مسح نشر بالتزامُن مع اليوم العالمي للصحة العقلية، وأظهر أن القلق من فقدان الكثيرين لبيوتهم المرهونة لدى البنوك، أصبح يحتل قائمة الأسباب خلف الشعور بالتوتر. واحتل القلق من خسارة الوظيفة أو العمل، المرتبة الثانية خلف التوتر الذي أصبح يسيطر حالياً على حياة الكثيرين. والملاحَظ أن المسح السابق، لم يتضمن أسباباً أصبحت هي الأخرى مؤخراً من دواعي القلق والتوتر الشديد. مثل الانهيار الذريع لأسعار الأسهم حول العالم الذي نتج عنه تبخر مدخرات العمر، التي كان يخطط الكثيرون للاعتماد عليها بعد تقاعدهم، كمصدر دخل يُؤمِّن لهم السنوات الأخيرة من حياتهم. وربما كان تفسير استثناء هذه العوامل من المسح، يعود إلى أنه قد تم قبل أسابيع قليلة، وقبل أن يحدث ما حدث في أسواق الأسهم خلال الأيام القليلة الماضية. هذه العلاقة بين الأزمة المالية العالمية وبين الصحة العقلية والنفسية، أكدتها أيضاً دراسة صدرت عن الرابطة الأميركية للعلوم النفسية (American Psychological Association)، وأظهرت أن معدل التوتر لدى الأميركيين يشهد أيضاً تزايداً مطرداً. حيث زاد من يعانون من التوتر بسبب الوضع الاقتصادي الحالي من 66% في شهر أبريل الماضي، إلى 80% في شهر سبتمبر. والغريب أن الأمور المالية الشخصية تحتل رأس قائمة أسباب التوتر لدى الأميركيين بنسبة 81%، تليها في ذلك الأزمة الاقتصادية العامة بنسبة 80%، ثم ضغوط العمل بنسبة 67%، بينما احتل ذيل القائمة التوتر الناتج عن الخوف من إصابة أحد أفراد العائلة بمرض عضال. وهو ما يعني أن لدى الأميركيين حالياً، أصبحت المخاوف من الأزمة المالية أشد وطأة وأكبر عبئاً نفسياً من أية مخاوف أخرى على صحة وسلامة أفراد العائلة. ولا يمكننا النظر إلى الوضع الحالي على أنه مجرد زيادة عالمية في حجم وشدة التوتر، بل ينبغي أن نأخذ في الاعتبار التبعات الصحية السلبية العديدة للحياة في ظل مستوى عالٍ من التوتر الشديد، أو من التوتر المزمن. فالقائمون على الدراسة البريطانية، يتوقعون حدوث زيادة ملحوظة في أعداد من يلجأون إلى أطبائهم، محملين بالشكوى من الأعراض والعلامات المختلفة. أما الدراسة الأميركية فقد أظهرت بالفعل ارتفاع عدد من أصبحوا يشتكون من أعراض جسمانية ونفسية مرتبطة بالتوتر الشديد والمزمن، مثل الشعور الدائم بالإرهاق، والغضب المكبوت وسرعة تهيج الأعصاب، مع الأرق وعدم القدرة على النوم لساعات طويلة. والمعروف أن التوتر الشديد أو المزمن يؤديان إلى العديد من الاضطرابات العضوية والنفسية. حيث يتسبب التوتر في زيادة إفراز هرمون الأدرينالين وهرمون الكورتيزون في الجسم، وهما الهرمونان اللذان يزيدان بدورهما من تسارع ضربات القلب، ومن معدل التنفس، ومن مستوى ضغط الدم، ويولدان نوعاً من الضغط العام على أعضاء وأجهزة الجسم. ويحمل التوتر المزمن خطراً خاصاً، حيث يعتبر سبباً رئيسياً خلف الإصابة بأمراض القلب مثل الذبحة الصدرية، والإصابة بالسكتة الدماغية، وارتفاع ضغط الدم، وغيرها من الأمراض والعلل. كما أثبتت الدراسات أن التوتر الشديد، ولفترات طويلة، يؤدي إلى الاكتئاب المزمن. حيث يعتقد أن الأشخاص المعرضين للتوتر المستمر، يصابون بالاكتئاب، بمقدار ستة أضعاف معدل الإصابة بالاكتئاب بين الأشخاص غير المعرضين للتوتر. ومما يزيد الوضع سوءاً، فشل الكثير من هؤلاء في التعامل مع توترهم بالطرق السليمة. فمن بين الواقعين تحت توتر، يلجأ 48% للإفراط في الأكل، أو لالتهام أطعمة غير صحية. بينما يعتقد 18% أن تعاطي الكحوليات يخفف من توترهم، ويلجأ 16% آخرون للتدخين بشراهة لخفض توترهم. بينما تظل التدابير الفعالة، على ذيل قائمة الأساليب التي يلجأ إليها البعض للتعامل مع توترهم واكتئابهم. مثل ممارسة الرياضة، التي يجهل الكثيرون مدى أهميتها في خفض التوتر، ودرء شبح الاكتئاب. ولعل هذه الأهمية الفائقة للرياضة في الصحة النفسية والعقلية، هي التي دفعت منظمة بريطانية أخرى (MIND) لإنفاق 16 مليون جنيه استرليني، لتثقيف العامة بأهمية هذه العلاقة. بينما تجد اجراءات أخرى -مهمة وإن كانت ذات فعالية محدودة إلى حد ما- مثل الاستماع للموسيقي أو الخروج بصحبة الأصدقاء، قبولاً أوسع بين الكثيرين. والخلاصة أن العلاقة بين مؤشر أسواق المال، ومؤشر الصحة العقلية والنفسية، أصبح أكثر وضوحاً مما كانت عليه في أي وقت مضى. فتدهور أسواق المال، وما يحمله ذلك من خسائر مالية شخصية، يؤدي إلى حالة من التوتر الشديد، تتحول إلى توتر مزمن، يفضي في النهاية إلى شعور غامر بالاكتئاب. وبالنظر إلى الآثار العضوية والجسدية للتوتر والاكتئاب فكثيراً ما ينتهي الحال بهؤلاء في أقسام الطوارئ والحوادث بالمستشفيات، بسبب تعرضهم لذبحة صدرية أو سكتة دماغية.