يذهب "جيل كيبل"، الباحث الفرنسي المعروف في الحركات الإسلامية، في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان "الرعب والشهادة" أن الحركات السلفية "الجهادية"، التي ظهرت بقوة في نهاية التسعينيات لم تكن على عكس ما يتصور امتداداً لحركات الإسلام السياسي "الاحيائية"، وإنما كانت تعبيراً عن تراجع هذه التيارات، ومظهرا لأزمتها البنيوية. وكان الكاتب نفسه قد ذهب في كتاب سابق إلى دراسة التركيبة الاجتماعية للحركات الإسلامية التي أرجعها الى الترابط العضوي بين مكونات ثلاثة هي: الشباب المديني المهمش والطبقة الوسطى "الورعة"والمثقفين المنتجين لخطاب ديني قادر على تعبئة هاتين الفئتين على اختلاف مصالحهما وخلفياتهما الاجتماعية. فحين يقوم هذا الترابط تصبح هذه التيارات فاعلة نشطة، وحين يختل تضعف وتذوي. فالشباب العاطل عن العمل المقصي في أرباض المدن الكبرى وأحيائها القصديرية الفقيرة، هو وقود الحركات الاحتجاجية وقاعدتها المرئية، والطبقات الوسطى المنقادة للتدين الطقوسي والمتطلعة للمنتوج الديني الحديث هي التي تفرز في العادة القيادة السياسية لهذه الحركات المنظمة، والمثقف الداعية هو منتج الخطاب الأيديولوجي التعبوي الذي يسمح بائتلاف الطبقتين. تقوت الحركة في مصر والجزائر والمغرب والسودان... وهي بلدان كبيرة وكثيرة السكان ، تشهد مصاعب التحديث الاقتصادي والاجتماعي، وتعاني من بطالة الشباب والخريجين، ولم تبرز كقوة فاعلة في البلدان الخليجية النفطية الغنية والمحدودة السكان، ولا في البلدان التي تغلب عليها البنيات البدوية الريفية، أو التي لم تبرز فيها نخبة مثقفة حديثة منتجة لخطاب ديني مغاير للخطاب التراثي التقليدي. قد لا نوافق نموذج "كيبل" في تفاصيله، لكننا نعتقد أنه مفيد في رصد الظاهرة الإسلامية في تعقدها وتشابك مكوناتها. والواقع أن التحليل الاجتماعي - السياسي يبين لنا أن تشابه الواجهة الثقافية قد يكون"عائقاً أبيستمولوجيا" لفهم الحالات المتمايزة، بقدر ما أن الاختلاف الظاهر قد يكون أيضاً حجاباً لضبط أوجه التشابه والتماثل. وإذا وقفنا عند مستوى الخطاب (من حيث استراتيجيات الدلالة والإقناع والتموقع) أمكننا التمييز بين نماذج ثلاثة نعتقد أنها تحيل إلى خلفيات مختلفة. وإن خلط بينها في الغالب. فالنموذج الأول هو "الفقيه الخبير"، الذي يختلف في آن واحد عن الشخصية المنحدرة من المؤسسة الدينية التقليدية التي انحسرت إلى حد بعيد وعن شخصية "المفكر الإسلامي" الذي يتبنى سردية تحديث الإسلام أو أسلمة الحداثة. وغني عن البيان أن التيارات الإسلامية لم تستمل في الغالب الفقهاء المحترفين ولا رموز المؤسسة التقليدية. فلم ينضم علماء الأزهر الكبار أيام المد الإخواني لمدرسة البنا وقطب، وكذلك الشأن بالنسبة لعلماء الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب، وإن كان للتيار الإسلامي فقهاؤه المنحدرين من العمل الدعوي - السياسي. فالفقيه المجدد هو نموذج ليس بالجديد تعود جذوره للحركة الإصلاحية النهضوية، لكنه يأخذ في أيامنا شكل الخبير المختص في المادة الفقهية الذي أصبح مطلوباً بقوة في مناح شتى من بينها الرقابة الإسلامية على المنتوجات الاقتصادية (شركات التأمين والمصرفية) والفتوى في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، التي يتزايد الإقبال على برامج الإفتاء فيها التي أصبح لها نجوم معروفون، وتقديم الاستشارات القانونية استجابة لاتجاه ملموس في أغلب البلدان الإسلامية لتقنين الأحكام الفقهية والتوسع في الاستفادة منها في التشريعات المعتمدة. وقد ينشأ الخلط بين هذا النموذج والحركي السياسي، لتضافر البعدين لدى بعض زعامات العمل الإسلامي المشهورين (مثال القرضاوي ). أما النموذج الثاني فهو "الداعية النجم" الذي يختلف نوعياً عن نموذجي الواعظ التقليدي الذي كان مألوفاً في السياق الإسلامي الوسيط، وهو في الغالب منحدر من الوسط الصوفي الذي احتضن جمالية الروحانية الإسلامية، وعمقها وعن نموذج الداعية السياسي الذي ينتج خطاباً تعبوياً يمتزج فيه الإرشاد الديني بالتعبئة النضالية. إنه شخص ثالث يقدم مادة مغايرة، بأسلوب مختلف، ملائم لمطالب وحاجيات الإنسان المعاصر، ويوفر للطبقات الاجتماعية الوسطى والغنية المثقفة المتعة الدينية التي تحتاج إليها بلغة العصر وبنفس روحاني جديد، خالٍ من السياسة ومن واجهة الاحتجاج والتعبئة. وقد برز هذا النموذج في السنوات الأخيرة واقترن بالطفرة الفضائية، وأصبح لرموزه حضور مثير يتجاوز حضور نجوم السينما والرياضة، وإن كان يشابهه في بعض الأحيان (ظاهرة عمرو خالد في مصر مثلاً). ويشبه بعض المحللين هذه الظاهرة بنجوم قنوات التبشير البروتستانتية في أميركا، الذين يظهرون في شكل استقطابي مغرٍ. أما النموذج الثالث، فهو "الاستشهادي"، ونعني به الإرهابي المتطرف الذي يستخدم جسده سلاحاً لمحاربة "العدو"، الذي يتأرجح بين حكام البلدان المسلمة والدول "الكافرة" والمسلم العادي الذي لا يلتحق بالجماعات التكفيرية المتشددة. وفي ما وراء الخلاف حول مشروعية العمليات المدعوة بالاستشهادية في البلدان المحتلة، فإنه لا مراء في أن هذا الشكل من المواجهة جديد في الساحة الإسلامية، على الرغم من ثراء تركة الجهاد في الإسلام. فالشهيد في التقليد الإسلامي هو من يستميت في الدفاع عن القضية وحماية الأمة، في حين إن تقنية الموت الانتحاري ظهرت في الفضاء الآسيوي لدى التاميل واليابانيين، وهي راهنا تعبير عن موقف متجذر في الحداثة الغربية هو الاحتفاء بالجسد ولو بتدميره بشكل مسرحي فظيع يبلغ رسالة احتجاج بأفتك وسائل الاتصال وأكثرها جدوائية. فما يبحث عنه"الاستشهاديون" ليس هزيمة الخصم في معركة متوازية، أو تسجيل موقع الضحية المنتصر بعدالة قضيته وشجاعة موته (على غرار الملحمة الحسينية في الموروث الشيعي)، وإنما تحويل الموت الذاتي إلى سلاح دعائي وأداة فتك في النمط الجديد من الحرب الذي أطلق عليه الباحثون الاستراتيجيون عبارة "الحروب غير المتكافئة". وبالرجوع لنظرية "جيل كيبل"، نلاحظ أن نموذج "الشهادة" في خطاب المجموعات المتطرفة العنيفة لا يلتبس بالمفهوم العقدي الفقهي القديم، بل هو مصطلح له شحنة دلالية مغايرة، ويرجع لحقل مرجعي مختلف، وهو مظهر من مظاهر التحولات الراهنة في الساحة الإسلامية، التي وقفنا عند ثلاثة من فرسانها الجدد.