بدعوة كريمة من وزارة الدولة لشؤون المجلس الوطني الاتحادي في دولة الإمارات العربية المتحدة والمجلس البرلماني لدول حلف شمال الأطلسي "الناتو" شاركتُ الأسبوع الماضي في أبوظبي بمؤتمر "الشرق الأوسط والتحديات الدولية" الذي شاركت فيه خمسون شخصية بينهم مسؤولون وأكاديميون وبرلمانيون من 15 دولة من دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" الـ26. ولاشك أن هذا الحلف، الذي تقوده الولايات المتحدة، هو أكبر وأقوى تحالف عسكري في تاريخ العالم الحديث، حيث يمتد مجال اهتمامه الحيوي ليشمل 3 قارات، ويتحكم في الكثير من مفاصل القضايا الحساسة والملفات الملتهبة في العالم من أفغانستان إلى كوسوفو، إلى غيرهما. وغني عن التذكير أن هذا الحلف شكل طيلة فترة الحرب الباردة الذراع العسكرية القوية للغرب الرأسمالي في مواجهة الشيوعية والكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق و"حلف وارسو" المنهار. ويفاخر مسؤولو "الناتو" عادةً عندما نلتقي معهم في الاجتماعات الرسمية وفي المؤتمرات بأن "الناتو" انتصر في الحرب الباردة، وأسهم في إسقاط الاتحاد السوفييتي، وقرَّب من نهاية الكتلة الشيوعية دون إطلاق رصاصة واحدة. أما انخراط الحلف في نوبات إطلاق الرصاص فقد أتى مباشرة عقب نهاية الحرب الباردة، وتحديداً في يوغوسلافيا السابقة وذلك بهدف تحجيم ميلوسوفيتش وقمع وحشية ممارساته الشنيعة ضد المسلمين في إقليم كوسوفو. وأعقب ذلك الوجود العسكري لـ"الناتو" في أفغانستان ضمن قوات التحالف الدولي المعروف باسم "ISAF" إضافة إلى تدخلات دولية أخرى بدأ بعضها يزيد من تردي صورة "الناتو" التي يشوبها أصلاً الكثير من اللغط منذ البدء، بسبب ارتباطها بالهيمنة الأميركية وتصويرها على أنها "إمبريالية جديدة" تريد أن تتحول إلى شرطي للعالم، وعلى نحو يتغول معه "الناتو" شيئاً فشيئاً ليحل محل الأمم المتحدة في حل النزاعات بدون شرعية وغطاء من مجلس الأمن، وبكيفية يتدخل بها في شؤون الدول في عالم أحادي القطبية وتديره واشنطن. وفي مؤتمر أبوظبي شاركتُ بورقة حملت عنوان: "علاقة الناتو ودول الخليج في إطار مبادرة إسطنبول"، وعلقتُ في الورقة، كما كنتُ قد سطرتُ في هذه الصفحة في الأول من يناير 2007 مقالاً عقب تنظيمي وترؤسي لأول وفد من "قادة الرأي" -كما تسميه إدارة الدبلوماسية العامة في حلف "الناتو"- من الأكاديميين والخبراء الاستراتيجيين الكويتيين. وكانت الكويت هي أول دولة من دول مجلس التعاون انضمت إلى مبادرة إسطنبول لتحصين وتطوير قدراتها الأمنية والعسكرية، ولتدريب وتأهيل قواتها المسلحة. ومنذ عام 2004 وحتى عام 2006 انضمت إلى مبادرة "الناتو" إضافة إلى الكويت، كل من البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة. ولم تنضم حتى اليوم على رغم ابداء الاهتمام بالاطلاع على مضمونها، كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان مما يبقي المبادرة وقدرتها على التطور تراوح مكانها دون أن تنجح في تحقيق الآمال التي تسعى المبادرة لتحقيقها. والحال أن هذه المبادرة أتت أصلاً كردة فعل على تحديات عالم ما بعد 11 سبتمبر، ولحماية أمن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي من خطر الإرهاب وما يترتب عليه من عدم الاستقرار، وقد أتت متناغمة ومتازمنة مع مشروع واشنطن الذي عرف بـ"الشرق الأوسط الكبير" واعتُمد كمفهوم في صيف عام 2004 في قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، وأعقب ذلك في قمة حلف "الناتو" في إسطنبول في نهاية يونيو 2004 إطلاق مبادرة إسطنبول فيما عرف اختصاراً باسم ICI وهي المبادرة التي أتت لمساعدة دول مجلس التعاون الخليجي، كلاً على حدة، على تأهيل وتدريب وتحصين قدراتها وقواتها وإمكانياتها الدفاعية والعسكرية والأمنية والاستخبارية لدرء المخاطر، والتعامل مع التهديدات والتحديات المرتبطة بالشؤون الأمنية والعسكرية والدفاعية في توظيفٍ لخبرات ودراية حلف عسكري عريق مثل "الناتو" الذي سيحتفل العام القادم بالذكرى الستين لقيامه. وقد ساهم كل ذلك في إقناع الدول الفاعلة في النظام العالمي سواء كانت الدول الصناعية الكبرى، أم أعضاء حلف "الناتو"، في تبني المبادرة المهمة التي ترتكز على فكرة أساسية "نساعدكم لتساعدوا أنفسكم" وتكونوا في وضع أفضل. غير أن هنالك أيضاً في عالمنا اليوم أولئك الذين يؤمنون بـ"نظرية المؤامرة"، والذين يذهبون إلى أن هذه المبادرة ما هي سوى الغطاء الغربي- الأميركي لعودة العهد الكولونيالي وإعادة استعمار إلى المنطقة من قبل القوى الغربية، ومن ثم يغرق هؤلاء في المبالغة. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه حقاً هنا هو: ما هي مصلحة "الناتو" من وراء هذه المبادرة التي لا يستوعب مضمونها ومغزاها الكثيرون من مسؤولين ونواب وأكاديميين وإعلاميين؟ هذا مع أن ما تعنيه هذه المبادرة محدد وواضح، للمفارقة. إنها ليست مبادرة مفروضة على أحد، بل اختيارية. وهي ليست شراكة ولا يوجد عرض فيها للانضمام إلى دول الحلف، وكل ما هنالك هو طبقة أو مستوى آخر من الدعم والمساعدة والتدريب والتأهيل لكل دولة بمفردها لتكون مؤهلة أكثر لمواجهة التهديدات والتحديات. وبعبارات أكثر وضوحاً ومباشرة فإن المبادرة ليست اتفاقية حماية وليست اتفاقية دفاعية ولا بديلاً عن الاتفاقيات الموقعة بين دول المنطقة والدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأميركية. ولن توجد بموجبها قواعد أو قوات من حلف "الناتو" على أراضينا. كما لن تأتي قواته لتحمينا أو تدافع عنا في حال الاعتداء على أي من دولنا. والسؤال الكبير، مرة أخرى: لماذا إذن هذه المبادرة ودولنا قد وقعت ترتيبات أمنية مع الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى مؤثرة في حلف "الناتو"؟ وسؤال آخر: ما هي مصلحتنا نحن كدول خليجية في الانضمام إليها، وما هي مصلحة "الناتو" فيها، في المقابل، خاصة أن أبجديات العلاقات الدولية تخبرنا أنه لا علاقات بين الدول دون مصالح؟ ثم، كيف تنظر إليها ايران؟ والقوى المناوئة للغرب؟ وماذا تعني لأمننا واستقرارنا، في النهاية؟ في المقال القادم سنقدم تفسيراً لهذه المبادرة اللغز التي تبقى غير واضحة وبعيدة عن فهم الكثيرين.