في إحدى المقابلات التي أجرتها مجلة "الإسلام اليوم" قبل أشهر مع بعض الدعاة السعوديين، أتاحت للقراء فرصة التعرف على التوجهات الحالية في فكر "الصحوة الإسلامية" المعاصرة داخل المملكة العربية السعودية، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتوالي العمليات الإرهابية داخل السعودية بعد ذلك. خطاب الصحوة الإسلامية خلال السنوات الأخيرة، يقول الشيخ الدكتور "علي بادحدح": لم يكن بالشكل الذي كان عليه في سنوات الثمانينيات أو التي قبلها. فقد "لَفَظَ" هذا الخطاب التوجهات الغريبة، في حين احتفظ بالثوابت! من أهم الأطروحات التي قدمتها الصحوة وأدخلتها ضمن برنامجها، يضيف د. بادحدح، هو الخط". ولم يتطرق إلى أسباب عدم بروز هذا الخطاب على امتداد ثلاثين سنة وكثر من انتقادات معارضي "الإسلام السياسي"، وقال: "إن الخطاب الصحوي تأخر قليلاً في الاهتمام بهذا الخطاب، على الرغم من أهميته الشديدة بالنسبة للمسلمين وقوة جاذبيته لشرائح جديدة وتيارات متضادة مع فكر الصحوة". ثم أضاف: "إن الإسلام قدم - ومنذ ظهوره - نظرته للجانب الإنساني وتعظيمه له". والواقع أن تجاهل الجماعات الإسلامية للجوانب الإنسانية فكراً وممارسة ليس بالشيء الجديد ولا ينحصر في الإسلاميين السعوديين وحدهم. فثقافة الصحوة في مجملها، وما تروج له من أفكار ونماذج سلوكية تؤدي حتماً إلى نبذ الآخر والانطواء على الذات والجماعة والعزلة الشعورية والنظر بريبة إلى مصطلح الثقافة الإنسانية برمتها، حيث اعتبر سيد قطب مثلاً القول بإن الثقافة تراث إنساني لا يصدق إلا في العلوم البحتة، "ولكنها فيما وراء ذلك إحدى مصايد اليهودية العالمية" (المعالم 1983، ص 141) وكثيراً ما تتسبب بعض جماعات "الصحوة" في فتن طائفية وانقسامات داخل أوطانها، دع عنك أن تكون نصيرة أي تفاهم إنساني. أشار د. "بادحدح" إلى جانب آخر من تأثير الصحوة، "حيث أصبحت المصارف الإسلامية تفرض نفسها على المتعاملين مع قطاع البنوك حتى في البلاد الغربية. إن الصيرفة الإسلامية ومنتجاتها المتعددة والمتوافقة مع الشريعة الإسلامية كانت إحدى نتاجات الصحوة الإسلامية المهمة سواء في السعودية أو في غيرها من الدول الإسلامية". وأشار د. "بادحدح" إلى "الجانب الاجتماعي" من نشاط الصحوة، وقال إن الصحويين السعوديين يُعدون الآن «أنشط تيار فيما يتعلق بالجوانب الاجتماعية، ومتقدمون فيه كثيراً سواء من خلال التواصل مع شرائح الشباب وتقديم الخبرات لهم، أو تنظيم الدورات التدريبية للمقبلين على الزواج وخلاف ذلك كثير". يرى د. بادحدح أن الصحوة الإسلامية "بدأت أخيراً في التعاطي مع المصطلحات التي بدأت تفرض نفسها على الحقول المعرفية المختلفة في العالم، وصار خطاب الصحوة يساهم في صياغة هذه المصطلحات من وجهة النظر الإسلامية". وليس من الواضح هنا، كيف يمكن لصحوة تعادي العلوم الإنسانية والفلسفة والفكر الحر، أن تستوعب هذا "التراث الإنساني"، وأن تعيد صياغة مصطلحاتها "من وجهة النظر الإسلامية"! فبين أيدينا مثلاً نماذج لما يسمى بـ "أسلمة" علم الاجتماع أو علم النفس أو حتى العلوم السياسية - دع عنك الفلسفة والفنون! - ولكنها محاولات لا ترقى بحال الى واقع هذه الحقول المعرفية واهتماماتها. وقد نعرض بعضها في مقالات قادمة. ومن مجالات التنظير الصحوي، كما جاء في حديث د. بادحدح، تعريف الناس بالمقاصد الحقيقية من مفاهيم دينية اختص بها، مثل مفهوم "الجهاد" و "دار الكفر" و "دار الإسلام" وقضية "الذمي والمستأمن".. والتي "شوهها الغرب"! ولكن هل الغرب هو الذي شوه دلالة هذه المصطلحات، أم جماعات التطرف الإسلامي، والجماعات الإسلامية عموماً، حتى توجت مساعيهم في 11-9-2001. بعكس د. "بادحدح"، لاحظ إسلامي سعودي آخر، هو محمد الشايع، "أن الجانب الاجتماعي في الخطاب الصحوي لا يزال ضعيفاً، على الرغم من أن هناك العديد من العلماء والمشايخ المحسوبين على هذه الصحوة". وأضاف موضحا، "إن الصحويين لا يكادون يمتلكون أية إحصاءات اجتماعية، مثل: نسب الفقر، والطلاق، والعنوسة، ونحو ذلك. إن عدم حرصهم على توفير هذه المعلومات يضعف كثيراً من خطابهم الاجتماعي". وأكد إسلامي سعودي ثالث "أن أهم ميزات الفكر الصحوي في السعودية إمكانية تأثيره على الأفكار في المناطق التي حوله، خاصة في دول الخليج الأخرى". وإشارة الإسلامي سعيد بن ناصر هذه تؤكد حقيقة في غاية الأهمية حول انتقال وتبادل الأفكار بين جماعات الإسلام السياسي في دول مجلس التعاون، وبالطبع في بقية الدول العربية بسبب سهولة الاتصال وتزايد سبل المواصلات والتنقل وانتشار الكتب والكتيبات. ولا شك أن "التيار السلفي" هو المستفيد الأول من هذا المجال حيث نمت جماعاته في سائر الدول العربية وغيرها، ودخلت في صراعات ومنازعات مع مختلف المذاهب. ويؤكد الشيخ عبدالله الطريقي أن الصحوة الإسلامية تواجهها أربعة تحديات، إحداها "صيغة التعايش مع الطوائف المخالفة"! أما الثلاثة الأخرى فهي: "المتغيرات العالمية من حولها، من فكرية واجتماعية وسياسية، و اتهامها بالإرهاب، والفكر العلماني الداخلي (الليبرالي والعلماني)". ويوجه مثقف إسلامي سعودي آخر نقداً شديداً للسلفية في بلاده، وهو د. محمد بن حامد الأحمري، الذي تولى رئاسة التجمع الإسلامي في أميركا الشمالية لسنوات. سُئل د. الأحمري في عدد مايو من نفس المجلة، برأيك هل يمكن أن تشكل السلفية وعاء لكل التيارات الإسلامية الأخرى؟ وماذا عن حالة السلفية في السعودية بشكل خاص، هل هي قادرة على ذلك؟ فأجاب: "الإشكال في السؤال هو المسمى، وما هي السلفية؟ ولكن حتى لا نذهب بعيداً فنحن نتحدث عما يُسمى السلفية كما هي الآن. وهي لا يمكن أن تستوعب غيرها، فهي ضيقة العطن، قاصرة على حلٍ لمشكلات العصر وتحديات المجتمع، تثير العداء والخلافات التاريخية والمتجددة دون وضع حل لشيء، بل نقد وتشهير وتفجير وتفسيق، كرقابة مدرس منزعج غضبان دائماً قاصر الخيال مقهور، فيوزع المحبة والثقة لغير أهلها ممن يخدعه، ويهوي بالشتائم على الذكي والحيوي والعبقري، لأنه يعكر جموده، والأمل في حركة تجديد تتجاوز قصة السلفية ومجتمع السعودية إلى تجديد أبعد وأشمل، أما التلفيق الجزئي فمصيره الإفلاس محلياً وعالمياً". وسألته المجلة: ماذا ينقص السلفيين في السعودية من وجهة نظرك؟ هل هم مثلاً في حاجة إلى حركة تصحيحية؟ فأجاب: "الدين أوسع من أن يصر أحد فيه على طبعةٍ محلية... هناك أمم حققت مفهوماً ضيقاً خاصاً للدين، فاحتوت الدولة دينها، وبادلها الولاء هو كما في الحالة الألمانية مع البروتستانت، وجزئياً مع التشيع في إيران، ولكن هذا عمل كبير بعيد، وقد لا يُقبل ولا يجدي، وبعض الخصوصية وهمٌ يروجه من يجهله أو يستغله". وسألته المجلة سؤالاً آخر بالغ الأهمية: ألا تعتقد أن الإسلاميين ليسوا واضحين بالنسبة لمطالبهم بالحرية أو أن المفهوم ذاته ملتبس عندهم؟ وكان جوابه: "قُدمت الحرية للإسلاميين على أنها التفسخ والعري والفساد، فكان الرد بالرفض، ولو علموا أن الحرية تعني تحقيق مصالحهم الشخصية والدينية والرقي بكرامتهم وأفكارهم لما حدث موقفهم القديم، ولهذا فإن الحرية مما يجب أن تُسخر له الكثير من الجهود، لأنها تعني في مجملها الخير للجميع، وبغير الحرية لا ترتفع راية، ولا يقوى مجتمع، ولا تعلو دعوة، ولا يصان مال ولا عرض. إن المجتمع يحتاج للتحرر من الأفكار المفسدة الصدئة عن الحرية وعن ثقافتها". وفي حديثه عن ذكرياته الدراسية، لاحظ د. الأحمري أن "جامعة الإمام" لم تكن في المدن البعيدة داخل المملكة ملاذ «الطلبة الملتزمين»، "فقد كان التدين أكثر بين طلاب التخصصات العلمية كالتربية والعلوم والطب والهندسة، وكنا نفرح بعودتهم لأبها في الصيف من جامعة الرياض وجامعة البترول". فلعل هذه من تلك! والسؤال الذي لم تسأله المجلة: هل تستطيع السلفية المعاصرة استيعاب مبادئ الحرية واحترامها والتعايش معها؟!