أخطار عديدة تنتظر الولايات المتحدة إذا سمحت باستمرار الملايين من الأشخاص حول العالم في المعاناة من آفة الفقر المدقع والحرمان الشديد من أبسط أسياسيات الحياة الكريمة. وقد اعترف المرشحان الرئاسيان في الانتخابات الأميركية، جون ماكين وباراك أوباما، بهذه الحقيقة خلال الاجتماع السنوي، الذي نظم الأسبوع الماضي برعاية مبادرة كلينتون العالمية، مؤكديْن معاً أن التخفيف من وطأة الفقر لا يعكس فقط قيم السخاء والاهتمام بالآخرين - وهي قيم راسخة لدى الأميركيين، بل يخدم قبل كل شيء مصالحنا القومية من خلال ضمان الأمن والازدهار للجميع. لكن إذا كانت الولايات المتحدة جادة فعلاً في خفض معدلات الفقر العالمية، فلماذا مهد مجلس الشيوخ الطريق أمام الرئيس الأميركي المقبل لإغلاق أحد أكثر برامج المساعدات الخارجية فعالية في السنوات الخمسين الأخيرة؟ فقد حاز برنامج "تحديات الألفية" اعترافاً عالمياً باعتباره مبادرة جريئة، تندرج في إطار المساعدات الأميركية الخارجية، حيث أنشئ لأول مرة عام 2004، وشملت مهامه محاربة الفقر وتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة القائمة على مبدأ أن المساعدات لا تكون فعالة إلا عندما ترسخ الحكم الرشيد، والحرية الاقتصادية والاستثمار في الناس. البرنامج يرى أيضاً أن الحكومات سواء في البلدان المتقدمة، أو النامية لا تستطيع استكمال خططها التنموية للمستقبل في ظل تدفقات غير مضمونة للمساعدات المالية واحتمال انقطاعها بين الفينة والأخرى. ويبدو أن ذلك بالضبط ما ستعاني منه بعض البلدان المتلقية للمساعدات الأميركية بعدما قلصت لجنة الاعتمادات في مجلس الشيوخ الأميركي المخصصات المالية للبرنامج إلى ملبغ زهيد بالكاد يصل 254 مليون دولار، ما يشكل 13% فقط مما طلبته الإدارة الأميركية. والحقيقة أن هذا القرار لا يدرك مدى أهمية استمرار المساعدات الخارحية الأميركية وخدمتها للمصالح القومية على المدى البعيد، لذا فإنه بتوفير التمويل الكامل للبرنامج ومده بالموارد الضرورية، علماً بأنها لا تشكل سوى 0.3% من الأموال المقرر ضخها في المصارف ضمن خطة إنقاذ النظام المالي، ستظهر مدى التزام الولايات المتحدة بمعالجة أحد أخطر اختلالات الاقتصاد العالمي، والمتمثل في وجود أكثر من 1.4 مليار شخص يعانون الفقر حول العالم. ففي الوقت الذي نقف فيه على أعتاب أزمة مالية عالمية، يتعين على أميركا إعادة تأكيد دورها القيادي في التصدي لآفة الفقر والعمل على تحفيز النمو الاقتصادي في البلدان الفقيرة. ولا ننسى أن المساعدات المتواصلة والمضمونة، تعني فعالية أكبر في القضاء على الفقر سواء بالنسبة للدول المتلقية للمساعدات، أو بالنسبة لدافعي الضرائب الأميركية الذين يمولون المعونات. وبالنظر إلى هذه الحقيقة، إضافة إلى أن التنمية الاقتصادية تستغرق وقتاً طويلاً، فإن الذراع التمويلية للولايات المتحدة والمتجسدة في برنامج "تحديات الألفية" سيمتد على مدى سنوات، ويستهدف تمويل مشروعات بعينها في بلد من البلدان. والأمر لا يقتصر هنا على البعد الخيري، وما يشمله من مد المساعدة للفقراء حول العالم، بل تمتد المساعدات إلى ما هو أبعد من خلال استثمار بعيد المدى لضمان عالم أكثر ازدهاراً وأقل خطورة. وبالطبع لا يمكن قياس النجاح في بضعة أشهر؛ لأن التنمية الاقتصادية مسيرة طويلة تُقاس بعقود من الزمن، أو على الأقل تقيم الحصيلة كل خمس سنوات بعد تطبيق البرامج الإصلاحية وإنجاز المشروعات، ويبرر المشروعون الأميركيون تحفظهم على تمويل البرنامج بكامله بانعدام النتائج الملموسة، وهو منطق يظهر خلطاً في الفهم بين المشاريع التنموية الممتدة زمنياً وبين الأعمال الخيرة المحصورة في فترات قصيرة. والأكثر من ذلك أن هذا التحفظ يغفل أيضاً نظام الحوافز الذي يعمل به البرنامج، وعلى أساسه يقيم مدى أحقية الدول بالمساعدة، وأهليتها في الاستفادة من المشروعات التي يشرف عليها، وذلك من خلال التركيز على مراقبة مدى احترامها لمعايير الشفافية والمسؤولية في التعامل مع الأموال الممنوحة. ففي "ليسوتو"، الدولة الصغيرة المتاخمة لجنوب أفريقيا، دفعت المساعدات التي يوفرها برنامج الألفية الحكومة المحلية إلى سن قانون تاريخي يسمح للمرأة بالتملك لأول مرة، كما أصدر رئيس السلفادور، إحدى دول أميركا الجنوبية التي تستفيد من مساعدات البرنامج، مرسوماً رئاسياً يقضي بإنشاء لجنة مختصة تتولى مراقبة نزاهة واستقامة المسؤولين الحكوميين. ولا بد أن وقف تمويل البرنامج من قبل الكونجرس الأميركي وتعليق أنشطته لفترة سنة كاملة، سيحول دون استكمال المشاريع في الدول النامية، وسيقوض جهود تخفيض معدلات الفقر، وهو ما سيضرب صدقية البرنامج، وسينال من صورته في أنظار الحكومات والمسؤولين. ولا يعني ذلك أن البرنامج خالٍ من المشاكل، وأنه لا يحتاج إلى تطوير، بحيث يمكن على سبيل المثال التعاون مع مؤسسات دولية أخرى تشترك مع البرنامج في هدف القضاء على الفقر والبحث عن مصادر أخرى للتمويل عدا دافعي الضرائب الأميركيين، لكن في المحصلة النهائية لا يمكن تجاوز الجهود الحكومية في الولايات المتحدة، ودورها المهم ليس فقط في تخفيض معدلات الفقر، بل ضمان استتباب الأمن ونزع فتيل الصراع والأزمات. ستفن جروف مسؤول بارز في برنامج "تحديات الألفية" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"