لو سألت ولي أمر أحد الطلبة المقبلين على التعليم الجامعي عن التخصص الذي يود أن ابنه يدرسه، فسيكتب لك قائمة ربما تبدأ بالهندسة والطب، وفيها الاقتصاد بمختلف تخصصاته، وعلوم الكومبيوتر، وغيرها من التخصصات العلمية، وهو لا يلام لأن سوق العمل يتطلب مثل هذه التخصصات، وهي التي تضمن اليوم أفضل الرواتب والمميزات، ولو عرضت على ولي الأمر هذا تخصصاً مثل الدراسات الإسلامية فإن جوابه المنطقي والذي يحمل شحنات سالبة في كثير من الأوقات: وهل تريده أن يكون إماماً في مسجد أو متطرفاً لا قدّر الله! المشاعر نفسها تحملها الدول عن التخصصات الإنسانية بما فيها الدراسات الشرعية والاجتماعية، ومن هنا نجد في دولة الإمارات اليوم كليات متخصصة في شتى الجوانب، وهي بلا شك رائدة وتتطلبها حركة التنمية في المجتمع، فنجد مثلاً كلية اتصالات والتي أنشأتها مشكورة شركة اتصالات لخدمة مشاريعها المستقبلية ومتطلبات الشركة الآنية وهو جهد مشكور، وفي العاصمة أبوظبي معهد البترول، وقد أُسس بالتعاون مع إحدى أرقى الجامعات في العالم في مثل هذا التخصص، وتكثر في الإمارات كليات الشرطة والحقوق لتأمين حاجة الدولة من رجال الأمن والقانون... هذا على سبيل المثال لا الحصر. ومن جانب آخر، نجد أن نظام الابتعاث الداخلي أو تعيين الطلبة وهم في مقاعد الدراسة، وتقوم به بعض مؤسسات الدولة والشركات الخاصة، لا يتجاوز في كثير من الأوقات التخصصات التي أشرت لها في مقدمة المقال، وحين تذهب إلى الكليات الإنسانية وتسأل جل الطلبة لمَ هم في تخصص قد لا يحتاجه سوق العمل، تجد كلامهم مسبوقاً بالحوقلة كي يقول لك أحدهم مكرهاً أخاك لا بطل، بلغة أخرى لو أن تخصصاً آخر تم قبولي فيه فلن تجدني في هذا المكان، فهو إذن تم قبوله في هذا التخصص لأن مستواه لا يجيز له أن يكون في مكان آخر، وقد عشنا في فترة كانت الكليات الإنسانية والتخصصات غير العلمية مثل اللغة العربية والدراسات الإسلامية إنما يلتحق بها من كان معدله في الثانوية العامة في ذيل القائمة أو من تم إنذاره وطرده من تخصصة السابق، والنتيجة وجود إنسان في تخصص لا يريده ومكرهاً عليه، ثم نطالبه بالإبداع والتميز. قد يعلق البعض: وما الخطورة في ذلك، فهؤلاء لا يصلحوا أن يكونوا مهندسين أو أطباء أو اقتصاديين، فكيف نسمح لإنسان أن يكون مهندساً يبني لنا المنازل وهو غير متميز؟ لذلك يكون مكانهم المناسب في كليات غير مرغوبة، ويتجاهل هؤلاء أكثر من حقيقة، أولاها أن العالم اليوم، كما تقول الدراسات الغربية، بحاجة إلى مزيد من المتخصصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ لأن أزمة الناس اليوم هي في هذا المجال، نعم نحن بحاجة إلى مهندس متميز، لكننا لا نحتاج له بنفس العدد والأهمية التي يتخيلها البعض، وقد برزت الحاجة أكثر للتخصصات الإنسانية عندما برز على الساحة الإسلام المتطرف، وهو بلا شك، نتاج لقادة في الفكر الديني إما أنهم غير متخصصين في الجوانب الشرعية أو أنهم تخصصوا فيها بغير عقل مفكر فحملوا النصوص غير ما تحتمل وأسقطوا على القرن الذي نعيشه فتاوى كانت صالحة لقرون مضت. كما أن بناء الإنسان أخطر من تشييد المساكن، فكيف أبحث عن أفضل مهندس لبناء عمارة ولا أضع المواصفات نفسها لمن يبني لي حضارة! فإذا كانت أزمات الناس الحالية والمستقبلية مرتبطة بالتخصصات الإنسانية كعلم النفس والاجتماع والتربية والدراسات الشرعية... فمتى نهتم بها في مجتمعاتنا وننشىء لها مراكز الدراسات المناسبة؟ لماذا لا يكون مسجد الشيخ زايد في أبوظبي مركزاً متخصصاً للدراسات العليا في العلوم الإنسانية، ويستقطب له أفضل الأساتذة في العالم، ويُقبل به أفضل خريجي الثانوية العامة كي يكونوا قادة في مجتمعنا للحياة الإنسانية؟ لقد كانت المساجد في العالم العربي، ولا تزال، ذات دور أكبر من مجرد إقامة الشعائر الدينية، لمَ لا يكون هذا الصرح العمراني الشاهق جامعة على غرار الأزهر في مصر والزيتونة في تونس، يقصده من أراد الدراسات العليا في الجوانب الإنسانية من العالم كله؟