حين سمحت الخزانة الفيدرالية الأميركية لشركة "ليمان براذرس" بالانهيار في سبتمبر المنصرم، كتبت حينها قائلاً إن هنري بولسون -وزير الخزانة- كان يلعب لعبة الروليت المالية الروسية. وبالفعل كانت هناك ثغرة كبيرة في نظامنا المالي، جاء انهيار "ليمان" مظهراً من مظاهرها الكارثية التي تسببت في إحدى أسوأ الأزمات المالية العالمية، والتي تهدد بالانحدار نحو الأسوأ. ورغم أن تداعيات هذه الأزمة بدأت بالظهور خلال أيام فحسب، فالملاحظ أن كبار صناع السياسات قد أضاعوا الأسابيع الأربعة الماضية كلها، دون أن يفعلوا شيئاً إزاءها، غير أنهم بلغوا الآن لحظة الحقيقة: إما أن يتحركوا بأسرع ما يمكن لصياغة خطة لإنقاذ النظام المالي العالمي، أو أن يغرق الاقتصاد الدولي في إحدى أسوأ موجات ركوده منذ "الكساد العظيم". وقبل أن يخطو هؤلاء خطوتهم هذه، دعنا نتحدث عما نحن فيه الآن. لقد بدأت هذه الأزمة بانفجار الفقاعة العقارية التي كبدت كبريات المؤسسات المالية خسائر فادحة. وإلى جانب انفجار الفقاعة العقارية، ساهمت عوامل ثانوية أخرى في تفاقم الأزمة، منها مثلاً نقص رؤوس الأموال الذي أرغم البنوك على الإحجام عن التمويل، مما أدى بدوره إلى حدوث انخفاض إضافي لقيمة الأصول والممتلكات، مما نجم عنه مزيد من الخسائر، وهلمجرا... من مظاهر وملامح الدائرة المالية الشريرة. وقد تعززت هذه الدائرة أكثر نتيجة لفقدان الثقة بالبنوك وغيرها من المؤسسات المالمية. وكان طبيعياً أن يسرع اتجاه التراجع المالي العام هذا، بمرحلة ما بعد انهيار "ليمان" التي اضطرت فيها الأسواق المالية لإيقاف أنشطتها بسبب خوف الجمهور وإحجامه عن شراء الكمبيالات والأوراق المالية، جراء الاضطرابات المزلزلة التي عصفت بأسواق المال. تجدر الملاحظة هنا أن استجابة القوتين الماليتين الكبريين دولياً، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، لهذه الأزمة لا تزال ضعيفة ولا تتلاءم معها حتى الآن. ولأوروبا أسبابها الخاصة التي تفسر هذا الضعف، وفي مقدمتها غياب كيان حكومي أوروبي موحد، مما فتح الباب على مصراعيه أمام كل واحدة من دول الاتحاد لرسم سياستها الخاصة في التصدي للأزمة، مع وجود قدر ضئيل من التنسيق والتعاون مع بقية الدول الأوروبية الأخرى. وفي ظل هذا الانقسام الأوروبي، ليس مستغرباً ألا تثمر جهود الاستجابة الأوروبية الجماعية الموحدة عن شيء. وفي المقابل، فقد كان على الولايات المتحدة أن تكون في وضع أقوى بكثير من شركائها الأوروبيين. فحين أعلن بولسون عن خطة الإنقاذ المالي، شاع شعور بالتفاؤل والأمل في الأسواق المالية العالمية كلها. لكن سرعان ما اتضح أن تلك الخطة تفتقر إلى ما يلزمها من وضوح فكري. والسبب أن بولسون أعلن عن اعتزام خزانته شراء أصول وائتمانات الرهون العقارية المعسرة، بقيمة قدرها 700 مليار دولار من البنوك الممولة لتلك الرهون، غير أنه لم يوضح أبداً كيف لهذه الخطة أن تساهم في حل الأزمة. والذي كان يفترض علينا اقتراحه بدلاً مما فعل بولسون هو أن تضخ الخزانة الفيدرالية رؤوس أموال مباشرة في الشركات والمؤسسات المالية، أي أن توفر الحكومة الأميركية لهذه المؤسسات والشركات ما تحتاجه من رؤوس أموال لمواصلة أعمالها واستثماراتها. ومن شأن هذا الإجراء أن يوقف موجة التراجع في الأداء المالي من جهة، بينما يؤمن للحكومة فرصة الامتلاك الجزئي لهذه الشركات والمؤسسات من الجهة الأخرى. وحين راجع الكونجرس خطة بولسون هذه، شرّع من النصوص والتعديلات القانونية مما جعل من حقن المؤسسات المالية برؤوس الأموال التي تحتاجها أمراً ممكناً فحسب وليس إلزامياً. غير أن بريطانيا أقدمت على خطوة تنم عن وضوح فكري يندر وجوده حالياً في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. وتتلخص هذه الخطوة في إعلان الخزانة البريطانية عن اعتزامها توفير ما قيمته 50 مليار جنيه إسترليني في شكل رأسمال إضافي جديد للبنوك، وهي حقنة مالية تتلاءم وحجم الاقتصاد البريطاني الذي تقدر قيمة برامجه الحالية بمبلغ 500 مليار دولار تقريباً، إلى جانب اعتزام الخزانة البريطانية توفير ضمانات مالية كبيرة للتعاملات المالية بين البنوك. وفضلاً عن تلك الخطوة الملهمة، أعلنَ بعض المسؤولين في الخزانة الفيدرالية الأميركية، عزمهم على تنفيذ خطة مماثلة، تسمح بها التشريعات الصادرة عن الكونجرس مؤخراً، رغم تردد بولسون إزاءها. لكن السؤال الذي لا بد من إثارته هنا هو ما إذا كانت هذه التحركات هزيلة ومحدودة للغاية، إلى جانب كونها تأخرت كثيراً عن موعدها؟ من جانبي لا أعتقد ذلك. غير أنه سوف يكون مثيراً جداً للقلق فيما لو انقضت عطلة نهاية الأسبوع الحالي، دون الإعلان عن خطة جديدة للإنقاذ المالي، لا تقتصر على الولايات المتحدة وحدها، وإنما عليها أن تشمل اللاعبين الماليين الدوليين كافة. وإذا ما سأل سائل: وما الحاجة للتعاون مع اللاعبين الدوليين في مواجهة أزمة تخص أسواقنا المالية؟ فالإجابة تبدأ بنفي جزئه الأخير، بالقول إن هذه الأزمة ذات طابع عالمي في الأساس، وربما تبدأ بانفجار الرهون العقارية في ولاية فلوريدا، إلا أن تداعياتها تهاجر بعيداً لتضرب في كل من أيسلندا وروسيا وغيرهما كما رأينا. ولهذا السبب فهي تتطلب حلاً دولياً. بول كروجمان كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"