خلال الثلاثين عاماً الماضية، التي أشاحت فيها الولايات المتحدة بوجهها عن إيران، أو تظاهرت بتناسيها على نحو ما، واصلت هذه الأخيرة صعودها إلى مركز الصدارة الإقليمية حتى باتت تهدد توازن نظام العلاقات الدولية التقليدي القائم حالياً، والذي سادته الهيمنة الأميركية بلا منازع، منذ نهاية الحرب الباردة. ورغم الفارق الكبير بين إيران ودولتين أخريين هما الصين وروسيا، من حيث تهديد النفوذ الأميركي، فإنه من الواجب الاعتراف بأن طهران بدأت تشكل تهديداً جديداً للنفوذ الأميركي في المنطقة الشرق أوسطية على أقل تقدير. هذا هو موجز الفكرة الرئيسية التي يناقشها روبرت باير، ضابط "سي آي إيه" السابق، في كتابه الذي نعرضه هنا. ويقول الكاتب إن إيران نجحت في مناورتها التي أوصلتها إلى هذا المركز الإقليمي المتقدم، مستغلة خطأ المعلومات السائدة عنها في أروقة صناعة السياسات والقرارات الدبلوماسية والسياسية في واشنطن. ومن بين الأخطاء الفادحة والشائعة عنها، أنها دولة يعميها التعصب الديني، ولا همّ لها سوى الانشغال بالأجندة الإرهابية التي أخذتها بعيداً على طريق العمل السري في تطوير برامج الأسلحة النووية. وبحكم عمله السابق في مجال الاستخبارات في المنطقة، تمكن المؤلف من الالتقاء بالكثير من القادة وصناع القرار الإقليميين، وكذلك مع قادة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ما مكنه من رسم صورة مغايرة جداً لتلك التي ارتسمت في أذهان مسؤولي واشنطن عن طهران. ومن بين أوجه هذا الاختلاف أن واشنطن لا تدرك مثلاً حقيقة أن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، الذي عرف بانتقاداته ولهجته النارية الملتهبة إزاء الولايات المتحدة، ليس هو الناطق الرسمي باسم الدبلوماسية الإيرانية في نهاية الأمر. ومما تجهله واشنطن عن إيران حتى هذه اللحظة، كما يقول الكاتب، أن تطوير الأسلحة النووية، ليس بتلك الأهمية القصوى التي تتحدث عنها دوائر صنع القرار في واشنطن. فبماذا تنشغل إيران إذاً؟ حسب رأي الكاتب، فإن الخطر الحقيقي الذي تمثله طهران، ولا تزال تغفله الولايات المتحدة والكثير من حليفاتها الغربيات، هو الأسلوب الناعم الذي تواصل به طهران فرض نفوذها الإقليمي على منطقة الشرق الأوسط، ابتداءً من الدول المجاورة لها مباشرة. فهي تمارس نفوذاً كبيراً على جزء مقدر من العراق، إضافة إلى تأثيرها على كل من لبنان والأردن وفلسطين، وصولاً إلى مصر، وبعض الدول الخليجية الأخرى المجاورة لها. أما في لبنان وفلسطين على وجه الخصوص، فتمارس طهران نفوذها الإقليمي على مجريات الشؤون الداخلية هناك، عن طريق إشعال حروب الوكالة التي يخوضها عنها حلفاؤها الإقليميون، بواسطة المليشيات المسلحة التابعة للأحزاب والحركات المحلية الموالية لطهران. وبدلاً من الاكتفاء بإدانة إيران والنظر إليها كدولة مارقة لا أكثر، فربما كان أفيد لواشنطن أن تنظر إلى هذه الدولة باعتبارها قوة إقليمية لها دورها وتأثيرها، ولا بد من التعاون معها -بدلاً من معاداتها- في سبيل حل الكثير من المشكلات الأمنية والجيوبوليتيكية التي تزعزع أمن المنطقة واستقرارها. ولاعتبارات الدبلوماسية الواقعية نفسها، فإنه يلزم الاعتراف بأن طهران تعد معبراً رئيسياً لصادرات النفط الشرق أوسطي، وأن في الاستمرار في سياسة التصعيد معها ما يضر باستقرار وأمن هذه الصادرات إلى شتى دول العالم. وإذا كان ثمة تغير قد طرأ على سياسات إدارة بوش بصفة خاصة إزاء طهران مؤخراً -بمحاولة فتح قناة حوار دبلوماسي معها- فمن الواجب أن يستمر هذا النهج من خلال الإدارة القادمة التي ستخلف بوش في البيت الأبيض. فالحوار والتعاون وليس التصعيد والمواجهة ولغة العنف، هما الطريق الأمثل للتعامل مع طهران، سواء تعلق الأمر بحل أزمتها النووية، أم بدورها في بسط الأمن والاستقرار في العراق وغيره من دول المنطقة المزعزعة أمنياً وداخلياً. ومن رأي المؤلف أن إيران هي الطرف الكاسب دون منازع في الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق. فقد أخل تدمير القوة العسكرية العراقية بموازين القوى إقليمياً لصالح إيران. وهذا بحد ذاته أصبح مصدر نمو كبير لنفوذها الإقليمي. بل إن زوال نظام صدام حسين، فتح الطريق واسعاً أمام اكتساح النفوذ الإيراني لدوائر السلطة واتخاذ القرار داخل العراق. وضمن هذا التوسع في النفوذ الإقليمي، تمكنت طهران من وضع يدها بطريقة غير مباشرة على موارد النفط العراقي وإدارتها. كما أن من بين العوامل الإقليمية المساعدة على اتساع رقعة النفوذ الإيراني، حقيقة الصدع الطائفي بين السنة والشيعة في المنطقة. ومما لا شك فيه أن لطهران يداً لا تخفى في توسيع هذا الصدع واستثماره لصالحها. إلى ذلك استفادت إيران كثيراً من أخطاء ماضيها، خاصة أساليب العنف التي وسمت سياساتها وعملياتها خلال حرب السنوات الثماني مع العراق. وأصبحت اليوم هذه السياسات والتكتيكات من ذكريات الماضي، كما يقول الكاتب. خلاصة القول؛ إنه ينبغي لواشنطن تبني تغييرات جذرية في سياساتها المتبعة إزاء طهران، بحيث تقوم علاقاتها معها، على أساس الحوار والتعاون، بدلاً من التصعيد والمواجهة. وفي هذا التغيير ما يخدم المصالح القومية الأميركية، ويساعد على تعزيز الاستقرار الإقليمي في المنطقة. ومن الأفضل لواشنطن أن تتعامل مع "الشيطان" الذي تعرفه بدلاًً من أن تعاديه. عبد الجبار عبد الله ------------ الكتاب:الشيطان الذي نعرفه: كيف نتعامل مع القوة العظمى الإيرانية؟ المؤلف: روبرت باير الناشر: "راندوم هاوس" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2008