منذ تولي الجنرال ديفيد بيترايس قيادة القوات الأميركية في العراق، وحتى بعدما اقترن اسمه بخطة الزيادة في عديد الجنود الأميركيين، وهو دائم الإصرار على عدم تدخله في الأمور السياسية وحريص على النأي بنفسه عن صراعات واشنطن المتأججة بين البيت الأبيض ونواب الكونجرس. لكن الكتاب الذي نعرضه هنا للصحفية "ليندا روبينسون"، بعنوان "قل لي كيف ننتهي من هذا الأمر: الجنرال ديفيد بيتراوس والبحث عن طريق للخروج من العراق"، يؤكد مدى التأثير الذي يمارسه قائد القوات الأميركية في العراق على نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة حتى لو لم يكن ذلك التدخل مقصوداً. فبتحسن الوضع الأمني في العراق وتراجع عدد القتلى الأميركيين، فضلاً عن ظهور بوادر إيجابية لحل سياسي في الأفق ينهي الصراع الداخلي بين الأطراف العراقية المختلفة، لم يعد من الممكن بالنسبة للسياسيين الأميركيين، وخصوصاً المرشح الديمقراطي أوباما، الاستمرار في إبداء موقفه التقليدي المنتقد لخطة الرفع من القوات الأميركية، وكل ما يستطيع أوباما أن يتمناه في اللحظة الراهنة هو تراجع اهتمام الناخبين بحرب العراق بعد هدوء الساحة ومرور كل هذه السنوات. والحقيقة أن الكتاب أرادته المؤلفة شهادة تقدير في حق الجنرال بيتراوس الذي كان من مهندسي خطة الزيادة التي أقرها بوش في وقت كانت وزارة الدفاع والخارجية ترى أن الحل لمعضلة العراق هو الانسحاب وليس تعزيز القوات الأميركية. ورغم تشكيك البعض في قدرة الخطة على النجاح وتحذير العسكريين من مخاطر الإفراط في نشر القوات إلى حد الانهيار، انخرط ديفيد بيتراوس بحماس وثقة، كما تقول الكاتبة، في تنفيذ الخطة معتمداً على مؤهلاته الشخصية وتجاربه السابقة. فقد خضع الجنرال الأميركي لتدريبات مكثفة على امتداد مساره العسكري وكلف بمهام متعددة كان يخرج منها بأوسمة تؤشر على كفاءته وعلو كعبه، وبدلاً من الركون إلى حدسه الفطري في وضع خطة الزيادة جمع حوله مجموعة من الضباط يمتلكون قدرات تحليلية ونقدية عالية لترجمة الخطة من بعدها النظري العام إلى سلسلة خطوات إجرائية تنفذ على أرض الواقع وتحقق الأهداف المسطرة. وتشير المؤلفة إلى البعد الفكري والتنظيري الحاضر بقوة في عمل بيتراوس، لاسيما أنه حاصل على شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة برنستون المرموقة، كما عرف بميله للتحليل واستلهامه أسس الاستراتيجية العسكرية التي خبرها جيداً. وقد ظهرت هذه الخصال الفكرية التي تنسبها الكاتبة لبيتراوس في العراق خلال إشرافه على صياغة دليل يشرح كيفية التصدي للتمرد والتعامل معه بفعالية، وهو الدليل الذي كرس فكرة مهمة تعيد إدماج البعد السياسي في الحرب، بدل التركيز على الجانب العسكري. فحسب الوثيقة المهمة التي صاغها بيتراوس ووزعت على القادة الميدانيين في العراق، لا يمكن التغلب على التمرد والقضاء على حاضنته الشعبية دون تمتع الحكومة بالشرعية في نظر المواطنين، وهو ما يستدعي حسب الدليل تقديم المساعدات الاقتصادية للعراقيين، وإصلاح أسلوب الحكم والإدارة، ثم تحسين مستوى الخدمات المقدمة للشعب. ومع أن بعض المحللين نفوا أن تكون خطة الرفع في عدد القوات الأميركية هي المسؤولة عن انخفاض مستويات العنف وتحسن الوضع الأمني في العراق، وأرجعوا ذلك إلى مجالس الصحوات السنية التي وقفت في وجه "القاعدة"، فإن الكاتبة تعارض هذه الفكرة بشدة، معتبرة أن خطة الزيادة التي نفذها الجنرال بيتراوس كانت أساسية في انحسار العنف. فلولا التعليمات الواضحة التي وجهت إلى القوات الأميركية بعدم الانخراط في عمليات انتقامية بعد سقوط القتلى الأميركيين والتزام الجنود بأعلى درجات الانضباط، لما نجحت الخطة ولما تحسن الوضع، كما أن وقوف القوات الأميركية على الحياد وعدم انحيازها لطائفة دون أخرى، أكسبها بعض المصداقية في أعين العشائر السنية، ودفعها في مرحلة لاحقة إلى التعاون مع الأميركيين لطرد "القاعدة" من جهة، وحماية أنفسهم من الميلشيات الشيعية من جهة أخرى. لكن النجاح في التصدي للتمرد لا يتحقق إلا باستكمال عناصر ثلاثة يشدد عليها الكتاب، وتتمثل أولاً في ضرورة التوقيع على الاتفاق الأمني الذي ينظم وجود القوات الأميركية في العراق في ظل حاجة الحكومة الحالية إلى استمرار الحضور الأميركي لمواجهة التغلغل الإيراني وحماية النظام السياسي الهش. والخطوة الثانية التي لا تقل أهمية عن الأولى هي مساعدة العراق في الإعداد لانتخابات مجالس المحافظات المقرر عقدها خلال السنة المقبلة لما تنطوي عليه هذه الانتخابات من أهمية كبرى في إعادة رسم الخريطة السياسية وضمان تمثيل أفضل للسنة، وهو ما سيضفي شرعية أكبر على الحكومة القادمة وعلى المؤسسات السياسية العراقية. وفيما يصعب التنبؤ بنتائج الانتخابات المحلية تتوقع الكاتبة أن ينقسم الصوت الشيعي لتعدد القوى والأحزاب، بحيث ستتشكل تحالفات جديدة تضم طوائف مختلفة. أما الخطوة الثالثة والأخيرة التي تراها الكاتبة ضرورية قبل مغادرة العراق، فهي تعيين مبعوث أميركي لتسهيل التوصل إلى تسويات بشأن قضايا شائكة مازالت تشكل مصدر خلاف حاد بين العراقيين؛ مثل تقسيم السلطة والثروة، وتوزيع الصلاحيات بين السلطة المركزية والحكومات المحلية، فضلاً عن الاتفاق على مستقبل كركوك والعلاقة مع الأكراد. زهير الكساب ----------------- الكتاب: قل لي كيف ننتهي من هذا الأمر: الجنرال ديفيد بيتراوس والبحث عن طريق للخروج من العراق المؤلفة: ليندا روبينسون الناشر: بابليك أفيرز تاريخ النشر: 2008