لو كان كارل ماركس على قيد الحياة الآن، لاهتم من دون شك بالأخبار حول الأزمة التي تضرب اقتصاد السوق الحر غير المقيد على نحو مفاجئ، بينما تطلّب الأمر سبعين عاماً وحرباً باردة لإسقاط الاقتصاد الماركسي الذي أقيم في الاتحاد السوفييتي بعد الثورة البلشفية، والذي مات جراء تناقضاته الداخلية في نهاية المطاف. كان ذلك هو المصير الذي تنبأت الماركسية (أو الماركسية اللينينية) بحدوثه للرأسمالية، وليس لنفسها. قد يقال إن رأسمالية السوق الحر غير المقيد قتلت نفسها جراء الجشع والغرور والإفراط، وكلها أمور واضحة أمام أعين الجميع، غير أن الذنب الأكبر يجب أن يعزى إلى خلاء وفساد أيديولوجيا السوق التي تناقض الطبيعة البشرية. وهي في هذا تشبه تماماً أيديولوجيا الشؤون الخارجية الأميركية التي تقول إن الديمقراطية ستنتصر دائماً في نهاية المطاف على ما عداها. غير أن هذا، للأسف، ليس سوى وهم يتم التشبث به في الدوائر الحكومية، والسياسية، والأكاديمية إلى حد ما، في الولايات المتحدة. ويتم التمسك به بعناد لأن الجميع يريد الاعتقاد بأنه صحيح لأنه مطمئن جداً للأميركيين. والواقع أن أيديولوجيتي السوق والديمقراطية تقوم كلاهما على إيمانٍ بخير واستقامة البشر، إيمان يصطدم من حين لآخر بعراقيل مؤسساتية وثقافية ينبغي إزالتها حتى يعود الانسجام. وتقوم رأسمالية السوق على فكرة أن السوق الحر هو أفضل آلية معروفة لتحديد الأولويات في نظام اقتصادي يصنع البضائع أو يقدم الخدمات. تقول رأسمالية السوق بأن الجميع، في ظروف الاقتصاد الحر، سيصنع ويبيع ويشتري في إطار توازنٍ يقيمه التقاء مصالحهم الحقيقية. فالناس سيشترون ما يحتاجونه أو يريدونه وفق القيمة التي يقدرونها للسلعة أو الخدمة؛ والصناع أو مقدمو الخدمات سيلبون هذه الاحتياجات وفق القيمة المعروضة عليهم والتي تحفزهم للقيام بذلك، وليس بنشاط آخر. كما يُفترض أيضاً أن رب العمل سيدفع للموظف القيمة الحقيقية لعمله، على اعتبار أنه في حال لم يقم بذلك، فإن العامل سيقصد رب عمل آخر مستعداً للقيام بذلك، رب عمل يدرك أن دفع راتب أعلى أمر يصب في مصلحته التنافسية. كما سيكافَأ المالكون والمدراء وفق القيمة الحقيقية لما يساهم به كل واحد منهم في المصلحة العامة، وإلا فإنهم سيخسرون ويفشلون. غير أن هذين الأمرين الأخيرين يُظهران مدى سطحية وزيف هذه النظرية. هذه السطحية، أي البعد عن الكيفية التي يعمل بها العالم الحقيقي، هي السبب الذي يوجب ضرورة تقييد السوق بضوابط وقواعد حقيقية، وهو درس كانت المرة الأخيرة التي تم تعلمه فيها قبل ثمانين عاماً خلال "الركود الكبير" (الأزمة الاقتصادية التي هزت الولايات المتحدة نهاية عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن الماضي)، قبل أن يتم تدريجياً التغاضي عنه أو إغفاله خلال إدارات ريجان وكلينتون وبوش الابن. لكن، مما يتألف هذا السوق المثالي والحكيم؟ فاعلون شرعيون لديهم أهداف شرعية، إضافة إلى مضاربين، ومحتالين، ومخادعين، ورجال يتاجرون بالمعلومات الداخلية، وفاعلين إجراميين. واليوم، يقوم السوق بتدمير الائتمان العالمي والقيمة العالمية. ويتصرف الجميع حالياً كما لو أن كل هذا إنما يحدث نتيجة لعمل إلهي، أو إرادة قانون المعدلات، أو نتيجة الحسابات الخاطئة التي يمكن مسامحتها. وفي هذه الأثناء، يقول الرئيس بوش، وببساطة شديدة: لقد بنوا عدداً كبيراً جداً من المنازل. بالطبع لم يبنوا عدداً كبيراً جداً من المنازل، بل خدعوا عدداً كبيراً جداً من الناس الذين اشتروا تلك المنازل، أو أرادوا شراءها، عبر منحهم المال من أجل شرائها، أو إعادة تمويلها من أجل التوفر على سيولة مالية مرة أخرى، برهونات وقروض لم يكن من الممكن توقع قدرة هؤلاء الناس على تسديدها. هكذا بدأت الأزمة. وكان التلاعب بالأموال لاحقاً، من أجل جمع الديون المعدومة مع الديون العادية وتمريرها في السوق المالية الدولية باعتبارها ديوناً عادية "مؤمَّنة"، موضوع مناقشة كافية منذ انفجار الأزمة الحالية بداية الصيف الحالي. كان الخبراء الماليون، مثلما لاحظ جوزيف ستيجليتز (في مقابلة حديثة على قناة سي إن إن)، يفعلون ما كان يطلبه منهم النظام. فقد وُعدوا بمكافآت مجزية مقابل إدارة الأخطار واستثمار الرساميل من أجل تحسين فعالية الاقتصاد بما يكفي لتبرير التعويضات السخية التي يحصلون عليها. غير أنهم "أساؤوا استعمال الرساميل، وأساؤوا إدارة الأخطار"، بل خلقوها. وقاموا بما صُممت الهياكل التحفيزية للقيام به: التركيز على الأرباح قصيرة المدى والتشجيع على المخاطرة. على أن هذا لا يأخذ في عين الاعتبار حرب العراق التي يجري تمويلها بواسطة الاقتراض، والتخفيضات الضريبية الكبيرة التي أنعم بها بوش على الأغنياء، والعقاب الذي أنزله بالناخبين الكادحين من الطبقة الوسطى الذين انتخبوه. ومثلما يقول ستيجليتز، فإن التدابير الأولى الواجب اتخاذها من أجل الخروج من الكارثة هي إعادة هيكلة نظام محفزات الشركات خدمةً للمصلحة العامة، بدلاً من المصالح الخاصة. غير أنه قبل ذلك، يتعين إعادة هيكلة السياسة العامة على أساس الفهم التاريخي لكيفية تصرف الناس في الواقع، وليس على أساس نظريات حول كيف يُتصور أن يتصرفوا في عالم المجردات. وهذا الفهم يسمى الواقعية التي تم الازدراء بها في الشؤون العامة الأميركية على مدى العقدين الماضيين. ---------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"