كانت مناظرة الأسبوع الماضي بين مرشحي منصب نائب الرئيس، جوزيف بايدن وسارة بالين، فرصة لتسليط الضوء على أمور كثيرة لعل أهمها مدى إفلاس الطبقة السياسية في أميركا، بل وسطحية الناخبين الذين ستقع على عاتقهم مهمة اختيار المرشح الأفضل. ولنتذكر جميعاً أن فكرة أساسية ترسخت على نطاق واسع قبل الذهاب إلى المناظرة، مفادها أن حاكمة ألاسكا، سارة بالين، ستُمنى بهزيمة ساحقة على يد السيناتور جوزيف بايدن الذي لا يكف عن الترويج لنفسه باعتباره الخبير المحنك في السياسة الخارجية، لاسيما وأنه أستاذ القانون الدستوري في الجامعة، ناهيك عن سنواته الطويلة تحت قبة الكونجرس والتي تتجاوز حداثة عهد منافسته في إدارة الشأن العام. لكن كما تبين لاحقاً، أثبتت تلك الفكرة تهافتها منذ اللحظات الأولى للمناظرة، فرغم أن بالين كانت بعيدة عن أي تميز لافت، فإنها حطمت جميع التوقعات بشأن ضعفها الشديد، أو هزيمتها المنكرة، حيث تمكنت في النهاية من إنقاذ مشوارها السياسي وحولت نفسها إلى مكسب حقيقي لجون ماكين في حملته الانتخابية بعدما اعتبرها البعض عبئاً ثقيلاً عليه. لكن ماذا عن بايدن؟ حسب توقعات النخبة السياسية كان من المفترض أن يسحق بالين ويتفوق عليها في الإحاطة بالتفاصيل والجزئيات وأن يهزمها أيضاً في ساحتي المعرفة والجدية. وفي هذا السياق لاحظت صحيفة "نيويورك تايمز" أن بايدن تجنب الوقوع في الأخطاء الكبيرة، بينما "استطاع أن يظهِر فهماً أعمق للصورة العامة والتفاصيل على حد سواء"، كما أشارت إحدى المقالات في صحيفة "وول سترتيت جورنال" إلى أن بايدن تفادى"المبالغات الخطابية والعبارات الرنانة"، أما وكالة "أوسشياتد بريس" فوصفت بايدن "بالسيناتو الأستاذ الذي يتعامل مع قضايا السياسة الخارجية بيسر وسهولة". والحقيقة أن بايدن تعامل فعلاً بسهولة، لكن مع سلسلة من الأكاذيب والتفاهات التي تلفّظ بها طيلة المناظرة. فحسب السيناتور الأستاذ قامت فرنسا والولايات المتحدة "بطرد حزب الله من لبنان"، مضيفاً: "لقد قلت وقال أوباما إنه علينا تحريك قوات الناتو إلى لبنان لمنع نشوء فراغ، لأنه إذا لم نفعل فسيملأ حزب الله ذلك الفراغ". لكن ربما كان يقصد بايدن أن فرنسا والولايات المتحدة أخرجتا سوريا من لبنان، لأن "حزب الله" لم يغادر قط الأراضي اللبنانية، حيث ظل جزءاً من الحكومة ومسيطراً على المناطق الجنوبية، ولم يسمع أحد أن باراك وبايدن طالبا بنشر قوات "الناتو" في لبنان، على غباء الفكرة أصلاً! ونفى بايدن أن يكون أوباما قد قال إنه "مستعد للجلوس مع الرئيس الإيراني أحمدي نجاد"، رغم أن بايدن سبق أن انتقد أوباما لأنه أدلى بذلك التصريح، وتباهى بايدن في المناظرة كيف أنه وأوباما ركزا منذ البداية على باكستان، وحذرا من "أن الأسلحة الباكستانية تستطيع ضرب إسرائيل والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط"، والحال أن الصواريخ الباكستانية بالكاد تقطع نصف تلك المسافة! وسخر أستاذ القانون الدستوري من نائب الرئيس ديك تشيني الذي كما قال "لا يعرف أن المادة الأولى من الدستور تعرّف دور الرئيس، أي السلطة التنفيذية"، وهو خطأ فادح لأن المادة الأولى تعرّف مهام السلطة التشريعية، فيما تعرّف المادة الثانية دور السلطة التنفيذية. وبثقة أعلن بايدن أنه وأوباما صوتا على رفع الضرائب، رغم أنه لم يفعل، وأنه حذر من أن خطة التغطية الصحية التي اقترحها ماكين، وهو أمر لم يحدث قط، وقال إنه ألح على ضرورة التنقيب على النفط، رغم أنه صوت لغير ذلك. لكن ماذا عن بالين؟ لقد ارتكبت هي أيضاً نصيبها من الأخطاء، لاسيما عندما فشلت في الإجابة بشكل مباشر عن الأسئلة، وتمسكت ببعض العبارات المكرورة، ومع ذلك فالمفروض، حسب التوقعات الأولية، أن تكون بالين عكس بايدن، ذلك أنه لأسابيع متتالية والحديث منصب في أوساط المعلقين الليبراليين على عدم استعداد بالين وعدم امتلاكها للخبرة المطلوبة. لكن ألا يعتبر ذلك عذراً يبرر بعض هفوات بالين؟ ثم ماذا عن بايدن الذي قضى أربعين عاماً في صلب الحياة العامة ومع ذلك يبدو شخصاً سطحياً وعديم الحيلة؟ الحقيقة أن الفرق بينهما هو مجرد تظاهر بايدن بالمعرفة وتقمصه لدور الخبير؟ --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"