عندما انهارت الشيوعية التي حكمت الاتحاد السوفييتي السابق سبعين عاماً، تحدث كثيرون عن سبب ذلك الانهيار، وتوصلوا إلى نتيجة في غاية الأهمية، وهي أن سببه يكمن في جوهر النظرية الماركسية وفلسفة النظام الشيوعي. اليوم تواجه النظرية والنظام الرأسماليان بمنظومتهما الليبرالية الجديدة نفس المصير، حيث أن الأزمة الأخيرة التي هزت النظام المالي الأميركي هي -في تصوري- بمثابة المسمار الأخير في نعش الرأسمالية. المشكلة ليست في موضوع أزمة الرهن العقاري، بل في طبيعة النظام الرأسمالي وبنيته، أي في حقيقة الأسواق الحرة وأساليب الربا التي يتبعها النظام الرأسمالي وسعيه الدائم لتعظيم الفائدة والربح، وفي أصولية السوق الذي يتخذ من مفهوم الليبرالية الحديثة مدخلاً له، وهذا ما حذر منه منذ الخمسينات عالما الاجتماع الشهيران روبرت داهل وتشارلز لينديلوم بوضوح في قولهما: إن الشيوعية والرأسمالية بصيغتيهما الأصليتين فشلتا كلياً، وإن الحل المستقبلي الوحيد يكمن في إيجاد نظام جديد. وكان أثر هذا التحذير واضحاً في نهاية الستينيات عندما برزت مؤشرات على وجود هذا الخلل الذي أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم والبطالة وأدخل العالم في مرحلة ركود تضخمي استمر خلال الجزء الأكبر من السبعينيات، وفي نهاية الثمانينات عانى الاقتصاد الأميركي من أزمات مالية وكانت الإدارة الأميركية تعالجها بأسلوب الترقيع واستخدام المسكنات. لكن الأمر الأهم هو ما حدث في نهاية القرن الحادي والعشرين، عندما أغرت الأرباح الكثير من المؤسسات المالية والمضاربين والمقترضين بالتورط في ممارسات غير مسؤولة لاسيما في المجال العقاري. لقد اعترف كل من هانس بيتر مارتين وهارالد شومان بهذه الحقيقة في كتابهما "فخ العولمة"، وأهمية هذا الكتاب أنه كان تحذيراً مبكراً من الأزمة المالية التي تجتاح العالم اليوم، وقد تحدث عن إفلاس الحضارة الغربية ونموذجها الذي "لم يعد صالحاً لبناء المستقبل ولبناء مجتمعات قادرة على النمو والانسجام مع البيئة وتحقيق التوزيع العادل للثروة والدخل". كما لاحظ أن الدعاية المغرضة لهذا النموذج كانت جزءاً من الحرب الباردة. لقد ارتبطت العولمة المستندة إلى الفلسفة الليبرالية الحديثة بتحرير الأسواق المالية والنقدية، وبالتخلي عن معظم الضوابط التقليدية التي كانت تسير العمل المصرفي والنظم النقدية لعهود طويلة، وكانت النتيجة أن العمليات النقدية لم تعد خاضعة للسلطة النقدية المحلية، حيث أصبحت عمليات دخول وخروج الأموال تتم عبر شاشات الكمبيوتر على نحو يجعل السلطة النقدية عاجزة عن حماية أسعار الصرف وأسعار الفائدة وأسعار الأوراق المالية في البورصات. وهكذا تحول العالم إلى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية، مستخدمين في ذلك مليارات الدولارات التي توفرها البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار الدولية وصناديق التأمين والمعاشات. ما يحدث اليوم في أسواق المال العالمية، هو نتيجة طبيعية ومنطقية لسياسة هذا التوجه الرأسمالي، وهو دليل واضح على نهاية الرأسمالية وعودة تدخل سلطة الدولة. ويكفي هنا أن أشير إلى ما قاله الرئيس الفرنسي ساركوزي من أن فكرة وجود أسواق بصلاحيات مطلقة دون قيود ودون تدخل الحكومات، هي فكرة مجنونة، إننا في حاجة لإعادة بناء النظام المالي والنقدي العالمي من جذوره. وما قاله وزير المالية الألماني من أن الجيل الذي هزم الشيوعية كان يحلم بعالم تنظم فيه العولمة كل المشكلات الاقتصادية، لكن هذا الحلم تحطم على صخرة الفكرة الوهمية "إن الأسواق دائماً على حق"، لذلك يجب إعادة النظر في النظام المالي العالمي بأسره. إن البديل الجاهز لعلاج إشكالية الأزمات المالية التي يمر بها العالم منذ عقود عدة، هو اعتماد نظام الاقتصاد الإسلامي، ذلك أنه الوحيد الذي يمتلك كل الآليات والوسائل القادرة على إيجاد نظام مالي سليم يخلو من الإشكاليات الخطيرة التي تكمن في بنية النظامين الشيوعي والرأسمالي معاً، وأهمها النظام الربوي، وهو قادر بتشريعاته على تحقيق العدالة الاجتماعية التي ينادي بها العالم اليوم... وهذا ما يراه أيضاً بعض مفكري الغرب.