"أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار".. نص ديني لم نجد له قيمة تُذكر عند بعض المشايخ الذين خرجوا على النص بطريقة غير مسبوقة، بحيث جعلوا قتل الإنسان والفئران في الميزان سيّان، وهنا وقعت الطامة الكبرى قبل قيام الساعة. وفي هذا دليل قاطع على أن قواعد الفتيا المعروفة والمعمول بها منذ قرون الإسلام الأولى قد انطفأت أنوارها لدى بعض المتسرعين في إصدار الأحكام، وقد قال أحدهم ذات مرة إنني على استعداد لتدريس الدين من فقه الطماطم إلى فقه الحكم للاستدلال على تبحره في أحكام الشريعة، وعندما جاء إلى طلبته في إحدى المحاضرات الأكاديمية طلب منهم في القاعة الدراسية أن يرددوا وراءه بأعلى صوت ما يلي: "القانون الوضعي كافر"، ولم يلب أحد نداءه، فما كان منه إلا وصمهم بالجبن. هذا نمط من التدريس كان يمارس في إحدى الجامعات وكأن هذا السلوك "المتطرف" في العملية التعليمية جزء من الحرية الأكاديمية التي أصبحت بهذا الأسلوب الشرس جزءاً لصيقاً بأزمة الأمة في أعز ما تفتخر به وهو دينها السمح مقارنة بالأديان الأخرى التي عانت من الصلف والعنت والتشدد إلى درجة البحث في ألوان الطيف كلها في قصة البقرة الصفراء. فأصعب اختبار يمر به ديننا اليوم عبر بعض علمائه الذين يتمادون ويصرُّون على أن قولهم هو الحكم الفصل وقول سواهم كفر وعلمنة وانحلال وتفسُّخ وغيرها من المصطلحات المفخخة التي تنفجر في الأبرياء باسم الدين والذود عن حياضه. وقد حذر ابن القيّم الجوزية من مغبة هذا الداء العُضال قبل أكثر من سبعة قرون حول قضية الإفتاء وخطورته على الأمة جمعاء وليس الفرد وحده عندما وضع كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" في أربعة مجلدات ضخمة حتى لا يتسرع العلماء أو الفقهاء والمفتون بالوقوع في شر التوقيع عن رب العالمين بأخذ كل أنواع الحيطة الواجبة لعدم الإفتاء، أما اذا وقعت الفتيا في غير مكانها فإن شيئاً من نار الدنيا المتمثلة في ردود الفعل القاسية أحياناً تصيب صاحبها مهما كان وزنه. ومن المفارقات في هذا الشأن أنك لا تجد في هذا العصر من يُفتيك بقول "لا أعلم" الذي تخصص فيه الإمام مالك، إمام دار الهجرة في زمانه، فعندما رحل إليه رجل من أجل السؤال عن فتيا له فرد عليه بـ"لا أعلم" غضب السائل من هذا الرد واعترض عليه قائلًا: قطعتُ هذه المسافة الطويلة حتى أسمع منك "لا أعلم"؟ فرد عليه الإمام قائلاً: ألم تسمع بمقولة "من قال لا أعلم، فقد أفتى"؟ والمتابع لمعظم البرامج الدينية يجد أن هناك نَهَماً شديداً لإصدار الفتاوى، ومن النادر أن تسمع من أحد المشايخ قول "لا أعلم" لأنهم استبدلوا بها مقولة "هذا والله أعلم". وقد اعتبر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن هذه العبارة في ذاتها تجرّؤ على الله، لأن المفتي يجب عليه نسبة الفتوى إلى شخصه لعدم علمنا بما هو أعلم عند الله فلا تعلق الفتيا عليه سبحانه. ومن قال إن حياة الناس وحركتهم لابد أن تبرمج عبر الفتاوى المعلّبة؟ وكأن كل نبرة منا ونفس نستنشقه لابد وأن يمر عبر سم خياط الفتوى، وفي ذلك إلغاء للأثر القائل: "استفتِ قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك"، لأن في هذه المقولة تكمن الكفة المعادلة لميزان الفتوى في تحمل المسؤولية الفردية دون اللجوء إلى شمّاعة المفتي وإن كانت الكفة الأخرى معوجة كما نشاهدها في بعض الفتاوى الطيَّارة التي لا تراعي مستجدات العصر ولا تُعير اهتماماً للقواعد المحكمة قبل شروع البعض في التعجل بالتوقيع عن رب العالمين.