لم يكن مفاجئاً ما حدث من انهيارات في النظام الدولي الجديد، فالذين قد يفاجأون هم الذين أسلموا قيادهم للولايات المتحدة وآمنوا بقدرتها على قيادة العالم في إطار القيم الغربية التي جعلها الرئيس بوش و"المحافظون الجدد" (وقد باتوا اليوم قدامى) شعاراً لحروبهم التي جندوا لها الدعاة والمبشرين بـ"نهاية التاريخ" عبر انتصار قيم الليبرالية والرأسمالية. وقد دعا هؤلاء إلى فرض الديمقراطية الغربية بالقوة، ولاسيما على دول الشرق العربي الإسلامي (الذي يسمونه جغرافياً الشرق الأوسط) وكانت جريمة 11 سبتمبر مبرمجة داخل هذا السياق (والآن يكتشف مثقفو أميركا واحداً تلو الآخر أن الرواية الرسمية للجريمة كانت خدعة كبرى)، ولكنها أعطت المبررات القوية لشن الحروب التي أعلنتها الولايات المتحدة وجندت لها حلفاءها النادمين اليوم، وهم يتلمسون طريقاً للانسحاب العسكري من المشروع الأميركي المدمر، لكن انسحابهم ليس سهلاً مثل انسحاب المبشرين من المفكرين، فقد كان حسب فوكوياما مثلاً، وهو أحد أبرز محركي أيديولوجيا المحافظين عبر مقولته الشهيرة عن "نهاية التاريخ" أن يعلن تراجعه عن دعم غزو أفغانستان والعراق، وأن يقدم تفسيرات جديدة لمفهومه لنهاية التاريخ والبشر، وقد وجد أخيراً أن نظريته كانت خاطئة جداً، وقد باتت موضع انتقاد لاذع. وكنا نرى ملامح فشل النظام الدولي الجديد منذ أن أعلن عنه الرئيس بوش الأب، عبر ما يحمل هذا النظام الجامح من فيروس نهايته في داخله. فلم يكن منطقياً أن يعيش العالم طويلاً حالة عدم التوازن في القوى، وأن تنهض بديلاً عن كل الأفكار الخيرة التي ناضلت البشرية من أجلها عصوراً عولمة متوحشة تعتمد القوة وحدها وتنهض على قطب واحد يسيطر على مقدرات البشرية، وتقوم مفاهيمه النظرية على إلغاء حق الآخر في الاختلاف، كذلك لم يكن منطقياً أن يحلم المتطرفون الدينيون بإمكانية طرد الإسلام من العالم وإنهائه على غرار ما تم تحقيقه من طرد الشيوعية وإلغائها، وقد استلهم الحاقدون على العروبة والإسلام حلمهم في القضاء على ما سموه الخطر الأخضر، من الانتصار الساحق الذي حققوه في الانتهاء من الخطر الأحمر. وقد ظنوا الهدف الثاني أمامهم أسهل لأن الدول العربية والمسلمة ضعيفة عسكرياً، ومتخلفة تقنياً. وكان الإرهاب المفتعل المدعوم علانية من الصهيونية ومن الولايات المتحدة، مبرراً ضرورياً لإعلان حرب ضد الإرهاب (وسرعان ما خلطت المقاومة الوطنية للاحتلال بالإرهاب لإيجاد مبرر للقضاء على كل من تسول له نفسه أن يقاوم عدوان إسرائيل). ولم يكن مشروع العدوان على عالمنا العربي والإسلامي ردة فعل على جريمة سبتمبر، فكلنا نذكر قول رامسفيلد "إن الحرب ستطال ستين بلداً في العالم وستستمر عشر سنين". ولم يكن لهذه الدول الستين وهي تقريباً أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي أي دور في جريمة سبتمبر، فكيف تكون ردة الفعل ضدها؟ لكن الهدف العريق لدى المتطرفين فكرياً، هو مهاجمة العرب والمسلمين، وقد كان في السياق كل ما تم الحديث عنه من قادة ومفكرين في الغرب من استلهام الحروب الصليبية في غزو أفغانستان والعراق وتهديد سوريا وإيران وفي الحديث عن شرق أوسط كبير تقوده إسرائيل في نظام دولي جديد يخضع لقوة عظمى تقودها الصهيونية العالمية وتتحكم بمصير البشر. وهؤلاء الذين أخذهم غرور القوة إلى هذه الأوهام وقسموا العالم إلى معسكر خير ومحور شر، لم يخطر لهم أنهم سيواجهون نهاية النظام الدولي الذي يباهون به قبل أن ينقضي نصف مدة السنوات العشر المحددة للحرب على العالم، وهدف المتدينين المتطرفين منهم إعلان مملكة الرب في إسرائيل! لكن الرياح لا تأتي دائماً بما تشتهي السفن، فالقوة العظمى التي باتت قادرة على تدمير الكرة الأرضية مرات، لم تتوقع أن يستطيع عدد قليل من المقاومين الفلسطينيين أن يضطروا إسرائيل إلى الحكم على نفسها بالسجن والتقوقع وراء جدار، وأن تهزم مرتين أمام صمود المقاومين في لبنان، وأن يتوج تعاظم القوة اللامتناهي بضعف مركزي في إسرائيل وهي تواجه اليوم حقيقة مرة، عبرت عن بعضها تصريحات أولمرت الأخيرة بوضوح، فقد قال "ما أقوله لكم لم يقله أي زعيم إسرائيلي قبلي: يجب الانسحاب من كل المناطق، ومن شرقي القدس ومن الجولان". لقد تزامن الاعتراف بهذه الحقيقة مع سقوط تدريجي لنظام القطب الواحد حيث ظهرت بداياته في القوقاز، ولكن ملامحه بدأت عندنا حين رفضنا الإذعان والرضوخ وتحملنا من أجل ذلك سيلاً من الضغوط، ولم نبدل من ثوابتنا شيئاً، وباتت ممانعتنا سبب غضب بعض الأشقاء الكبار علينا، وما نزال نأمل أن يعيد النظر في مواقفه كل من رأى المستقبل رؤية خاطئة. وقد بدأ كثيرون بمراجعة مواقفهم في الغرب، وخرج مفكرون كبار في الولايات المتحدة وفي أوروبا عن ولائهم لـ"المحافظين الجدد"، وانتقدوا المبالغة في تصوير ما سموه خطر التشدد الإسلامي على أوروبا والولايات المتحدة، وانتقدوا تجاهل القيادة الأميركية لتنامي مشاعر العداء ضدها، وعبر كثيرون عن ندمهم لدعم غزو العراق، وانتقدوا التفاؤل بإمكانية الترويج للقيم الغربية في الشرق الأوسط وفرضها بالقوة. وليس سراً أن جل تلك الأفكار المتطرفة كانت من صنع الصهيونية، وعلى سبيل المثال نذكر تصريح الرئيس بوش بأنه تتلمذ على أفكار شارانسكي حين قرأ كتابه "قضية الديمقراطية" وقل أن يفعل بعض الأشقاء من المثقفين العرب مثل هذه المراجعة التي أقدمت عليها باريس بقوة والتي تؤكد قدرة فرنسا على القراءة الناضجة والواعية للأحداث الكبرى في العالم وللمستقبل والتكيف الإيجابي معها. فقد أطلقت قمة باريس التي انعقدت في مطلع شهر أكتوبر الحالي مكاشفة مهمة وافقت عليها دول أوروبية كبرى (بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا) حين أعلنت الحاجة إلى "إعادة تشكيل النظام الدولي وإعادة النظر في قواعد الرأسمالية المالية". ولئن كانت الأزمة الراهنة هي القشة الثقيلة التي قصمت ظهر الرأسمالية فإن المقدمات كانت توحي بهذه النهاية غير المفاجئة لنا. لقد ضاق الأميركيون أنفسهم بما وصل إليه النظام الدولي الذي فرضوه على العالم (عبر اتفاقيات التجارة الدولية وعولمة الاقتصاد وإلغاء دور الحكومات، والسعي الدؤوب إلى مزيد من الحروب لترويج بيع السلاح وفرض السيطرة ونشر الفوضى الخلاقة -وهي فكرة شارانسكية كذلك- وقد وصلت الفوضى المدمرة إلى ذقون صُناعها). وتحفل الصحف الأميركية بالنقد اليومي لهذا الجنوح الذي أوصل الشعب الأميركي، وقاد معه شعوباً كبرى في العالم، إلى انهيار اقتصادي مخيف، ستكون له آثار مفجعة على الاقتصاد العربي الذي سيفقد مبالغ هائلة من حجم ودائعه في الخارج والداخل. والخطر أن يجد الخاسرون والمنهزمون الكبار مخرجاً لأزمتهم عبر شن حروب جديدة، فالدعم العسكري الذي قدمه الرئيس بوش لإسرائيل مؤخراً غير مسبوق في سنوات إدارته، وقد بدا وكأنه استعداد جاد لشن حروب جديدة. والخوف الذي تعيشه إسرائيل نتاج إخفاق مشروعها قد يدعوها إلى ابتلاء البشرية بحرب دولية طاحنة، ألم تقل جولدا مائير ذات يوم "إذا تعرضت إسرائيل للخطر فإنها مستعدة أن تأخذ العالم معها؟"، ومع أن أبواب السلام مفتوحة أمام إسرائيل منذ عقدين إلا أنها تخاف السلام، فالعقل المؤسس على الأساطير والأوهام لا يقبل مواجهة الحقائق.