كل الدلائل تشير إلى أن باكستان تتجه نحو مصير مشابه لمصير أفغانستان! ذلك أن المعطيات على الأرض لا تخطئها العين فيما يتعلق بهذه المقاربة. فالعلاقات الباكستانية- الأميركية ليست كما كانت في سابق عهدها من الدفء والحميمية! خصوصاً بعد موافقة الرئيس الأميركي جورج بوش على السماح -ولأول مرة- لقوات أميركية خاصة بشن هجمات برية داخل باكستان دون موافقة الحكومة الباكستانية. وهذا ما أثار ردود أفعال باكستانية غاضبة، وردت على لسان قائد أركان الجيش الباكستاني "إشفاق كياني" الذي أكد أن بلاده ستدافع عن سيادتها ووحدة أراضيها بأي ثمن! ولن يُسمح لأية قوة أجنبية بشن عمليات داخل باكستان. وكانت مروحيات أميركية ومجموعات كوماندوز قد قامت بعمليات في منطقة وزيرستان القبلية عند الحدود مع أفغانستان حيث قتل 15 شخصاً من المدنيين. وقدمت باكستان احتجاجاً شديد اللهجة لواشنطن على ذلك الانتهاك لسيادتها. كما أن التوتر بين باكستان والهند حول قضية كشمير ما زال يخيم على العلاقات بين البلدين، ناهيك عن اتهامات كابول المتكررة لجهات في الجيش والمخابرات الباكستانيين بدعم المقاتلين الذين يختبئون في مناطق القبائل الباكستانية، بل إن الجيش الباكستاني نفسه يعاني من صعوبات في السيطرة على الأمور في تلك المناطق التي يختبئ فيها متطرفون وعناصر "القاعدة. وحسب الإحصائيات الصحفية التي تناولت أعداد ضحايا التفجيرات في هذا البلد، فإن ما لا يقل عن 400 شخص راحوا ضحية هذه التفجيرات منذ فبراير من العام الحالي، بخلاف المواجهات الضارية بين الجيش الباكستاني وحركة "طالبان" في إقليم القبائل على الحدود مع أفغانستان، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 900 قتيل في الشهر الماضي فقط. فيما نزح أكثر من 300 ألف مدني عن تلك المنطقة. ناهيك عن انفلات الأمور وقيام رجال عصابات بهجمات غير متوقعة على الجيش الباكستاني. والحال أن التطورات على الأرض لم تأت من فراغ! فواشنطن ما انفكت تضغط -وبكل قوة- على باكستان من أجل ملاحقة عناصر "طالبان" الذين استوطنوا المناطق القبلية في باكستان على الحدود مع أفغانستان. وباكستان ذاتها بدأت توجه اللوم إلى أجهزة مخابراتها لعدم تمكنهم من معرفة مرتكبي الاعتداءات الأخيرة ومنها تفجير فندق "الماريوت" مؤخراً حيث أسفر الهجوم عن مقتل ما لا يقل عن 60 شخصاً وجرح 260 آخرين، ولقد تبنت الهجوم مجموعة تطلق على نفسها اسم "فدائي الإسلام"! وكان ضمن القتلى جنديان أميركيان، وتوفي ملحقان يعملان في السفارة الأميركية في إسلام آباد بعد إصابتهما في تفجير الفندق. وعلى صعيد آخر، كان الجيش الباكستاني ما زال يتعامل مع الأوضاع المتفجرة بشكل مستمر! فقد أعلن عن مقتل 16 متطرفاً خلال قصف لمواقع "طالبان" في مناطق الحدود مع أفغانستان، خصوصاً بعد أن أعاد مقاتلو الحركة وعناصر "القاعدة" إلى النشاط، وبدعم متواصل من حركة "طالبان" الباكستانية. ومعلوم أن هذه الحركة تشن هجمات انتحارية منظمة، خصوصاً بعد إقامة تحالف بينها وبين "القاعدة" ضد القوات الباكستانية، واتهام النظام في باكستان بالتحالف القوي مع الولايات المتحدة. ويبدو أن الأمور في طريقها للتصعيد! وخصوصاً أن هذا التحالف بين الولايات المتحدة وباكستان بدأ بالاهتزاز نتيجة الأحداث الأخيرة. وشعور باكستان -ولربما جراء ضغوط خارجية- بأن سيادتها أصبحت "مستباحة "، وأن الولايات المتحدة، تحت غطاء مكافحة الإرهاب، لا تعمل أي حساب لسيادات الدول! وفي مناخ كهذا، وضمن استمرار مسلسل الاغتيالات التي لم تتعاف منها باكستان، وآخرها مقتل رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو فإن الرئيس الجديد آصف زرداري، يجد نفسه في موقف لا يحسد عليه، بعد أن ورث تركة مشرّف! وفي أول ظهور له على منبر الأمم المتحدة هاجم الرئيس الباكستاني الجديد الولايات المتحدة بعد حادثة مروحيتن على حدود بلاده مع أفغانستان، وبدأ في لهجة غير متسامحة مع "الحليف" الأقوى، حيث قال: "إن باكستان لن تتسامح مع الانتهاكات لسيادتها من قبل حلفائها"، مضيفاً "لن نسمح لأصدقائنا بأن ينتهكوا أرضنا وسيادتنا". ووجه نقداً إلى الولايات المتحدة لـ"استفرادها بالقرار العسكري دون رجوع إلى صاحب الأرض"؛ وهو ما اعتبر أنه سيأتي "بنتائج عكسية"! والسؤال الآن: ماذا يخبئ القدر لباكستان؟ من الصعب التكهن بما ستؤول إليه الأمور، خصوصاً إذا ما تطورت مسارات العلاقات الباكستانية- الأميركية إلى الأسوأ! وباتت حكومة باكستان لوحدها في الميدان! حيث ستدخل في دوامة أحداث دموية مع عناصر "طالبان" الباكستانية و"طالبان" الأفغانية، وكذلك عناصر "القاعدة"! ولعل هذا الثالوث الإجرامي سيمهد لإقامة دولة إسلاموية غير ديمقراطية في باكستان تتحالف مع الأفغان المتشددين وتحظى بدعمهم. وهذا قد يمهد الأرضية الملائمة لنقل العنف -الذي تؤمن به تلك الطوائف الطالبانية- من أجل تصدير ثورة جديدة على غرار ثورة الخميني في أواخر السبعينيات. وهنا لن تنجو أية دولة من الدول التي تتحالف مع الولايات المتحدة من أعمال عنف وتفجيرات. وفي المحصلة، نعتقد أن أول الحلول كي لا تدخل باكستان دوامة العنف هو أن "تصلّح" علاقاتها مع الولايات المتحدة، التي تقوم بدور مؤثر -مع حلفائها في الأطلسي- من أجل محاصرة عناصر الإرهاب! وهذا لن يتأتى بتبادل الاتهامات بين الطرفين الباكستاني والأميركين! بل ينبغي أن يبدأ الرئيس الباكستاني الجديد عهده بإرساء نظام أمني جيد يقوم أساساً على التعاون مع الجهود الدولية من أجل مواجهة عدو مشترك واحد. والمطلب الثاني، أن تضبط باكستان حدودها في منطقة القبائل مع أفغانستان -مع تقدير صعوبة هذا المطلب- نظراً لحتميات طبوغرافية وديموغرافية، إذ إن حركة الانتقال بين البلدين لا يمكن حصرها أو مراقبتها، ناهيك عن نشاطات العصابات التي تنال الجيش الرسمي أو القوات الأجنبية التي تطارد جماعات "طالبان" و"القاعدة"! والثالث، من الأهمية بمكان أن تحظى باكستان بالثقة الدولية في مساعيها لمحاربة الإرهاب! وهذا لن يتأتى إلا بتخليها عن سياسة الاتهامات والاتهامات المضادة، أو إحداث ثغرات في جدار الصد الذي يبنيه المجتمع الدولي في مواجهة العمليات الإرهابية وتدريباتها في مناطق الحدود مع أفغانستان. إن العالم -في سعيه لمحاصرة الإرهاب- يحتاج إلى رؤى واضحة، وإجراءات فعالة لحماية الآمنين. وصد الفكر الخارج على الشرعية أو التسامح الديني. فتلك الجماعات المتوترة لا تؤمن إلا بالعنف! كما أن القتل هو المبدأ الوحيد الذي تعتنقه من أجل بسط ونشر أفكارها الرجعية وتحويل الكرة الأرضية إلى رؤية تأويلية ظالمة، تقوم على قهر النساء وقتل الرجال، ووأد البنات، والعيش في سياج غير متحضر. إن العالم المتحضر اليوم بأممه المتحدة ومؤسساته الدولية المتخصصة، وتحالفات دوله من أجل إعمار هذا الكوكب وحمايته، يحتاج إلى وضوح الرؤى وكشف كل المخبوء في السراديب التي تعشش فيها "خفافيش الظلام" التي تسعى لامتصاص دماء الأبرياء وتدمير الحضارة الإنسانية على طريقة قصف التماثيل الأثرية في أفغانستان. إن العالم المتحضر يحتاج إلى باكستان قوية وواضحة ورادعة، قبل أن تتحول إلى أفغانستان ثانية، ثم تبدأ عليها الولايات والولاة، وتفقد دورها ومؤسساتها، ويكفيها نزاعها الأزلي مع الهند حول كشمير، ولابد لها من إغلاق ملف "القبائل" أولاً حتى تتفرغ لتلك المشكلة الكبرى.