معظم الناس يظنون أن كندا جنة الله، وهي نصف الحقيقة؛ فهي نصف جهنم بشكل صقيع في برّاد، في درجة حرارة أربعين تحت الصفر... في جهنم مقلوبة! نعم نحن نظن أن الحرق خلفه نار، لكن قد يكون خلفه ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم فأهلكتهم. وكلمة "الصرّ" عرفتها حين أرسلتني محامية يهودية إلى مانيتوبا، فقالت: هناك تبرأ من مهنتك ثلاثاً، إياك أن تقول أنك طبيب! هناك، ومن الفندق، كانت الشمس ساطعة، فقلت الحمد لله لأكتشف أن درجة الحرارة 37 تحت الصفر، تحوّل الإنسان إلى قطعة "آيس كريم" في ثلاث دقائق... فقمت أقلد مشية الدب القطبي الأبيض، قبل أن أصبح مومياء أو"تسي" في جبال الألب! ولم يكن أمامي إلا الفرار بين "المولات"، وقلت أي ساحر زيّن للناس السكن في جهنم هذه؟ لكن ماذا نفعل أمام ظلمات البعث؟ ومر أمامي شريط من الرعب... عرفت حينها أي مصير رست فيه عائلتي، فبعد العز والراحة والبحبوحة، أصبح عليّ أن أضخ لهم كل راتبي، وراتبي يتكسر أربع مرات بقوة ساحر شرير إلى ربع قيمته؛ فيعيشوا حياة بروليتارية، تضطر فيها زوجتي أن تحسب قيمة كيلو الطماطم. أما دعوة الناس إلى عزومة فهي تحتاج ضغط الميزانية واستنفار الدخل، أما الأكل في المطاعم فهو ليس متعة بل مصيبة، ففي المطعم الياباني دارت عيني كالذي يغشى عليه من الموت! كان عليّ دفع فاتورة بقيمة 600 ريال، ما يعادل راتب عامل عندنا. هذه كانت تكاليف الهروب إلى كندا من دار الوطن إلى يوم البعث؛ إلى أقصى الأرض حيث البعد والغربة والوحشة وصبّارة القرّ، أرض الكدح والتعب والركض إلى حد اللهاث والسقوط على الأرض. لقد كانت كلفة مرعبة يكلف فيها كل جواز سفر كندي مائتي ألف دولار، ولذا فكندا مفتوحة لمن صب المال صباً وقدر على ذلك. فهي لمن عاش في الخليج؛ فأرسل عائلته، وحول مع نهاية كل شهر كل راتبه، وعاش هو على الحصير! أو كان من الرفاق المقربين ممن نهب البلد فأرسل صبيانه للجامعات، وحصّل الجواز الكندي، لعله ينفعه إذا زلزلت الأرض زلزالها. أو هي لمن بيّض أمواله من عصابات الشرق الأقصى. أو من عصابات صدام ممن هربوا بالدينار الأصفر والدولار الأخضر. أو من شباب طموح، يتحول إلى براغٍ ضئيلة، في ماكينة رأسمالية عملاقة تهدر هديراً يصم الآذان؛ فلا يسمع أحداً من حوله، حتى يفاجأ بالموت. لقد كان عليّ اكتشاف أن العطسة كُلفتُها دولاران، وقدح الماء ثلاثة دولارات، وفنجان القهوة بسبعة دولارات... وكلها من عملة صعبة، تذوب فيها أوراق عملتي بِأشد من "الآيس كريم" في صيف قائظ... تحت أشعة الشمس مباشرة. وما أريد توضيحه أن الغرب نصفه جهنم، وأنه أصبح "زيوس" رئيس آلهة الأولمب، بيده الخير، يرفع من يشاء، ويشنق من ديكتاتوريي الشرق من يشاء، ويرضى عن من يشاء، ويستبقي طواغيت الترانزستور إذا خدموا بحرص وإخلاص. أما الشعوب فهي "لعبة" كما قال عنها العميل الأميركي "مايلز كوبلنز" في كتابه المشهور "لعبة الأمم". في كندا اعتمدت ثلاثة أو أربعة قوانين؛ كلها تمت بصلة لثلاثة حروف (د ف ع)، أولها ادفع، وآخرها ادفع، خاصة بكروت الائتمان الغدارة التي تطوقك لحد الشنق، لأنك تدفع ولا تشعر أن جيبك "ينبخش" ودمك ينزف، إلا حين وصول الفواتير. أما الفواتير فهي قصة لوحدها، فادفع، ولك الويل إن لم تدفع، لتكتشف أنك لا تملك البيت الذي تسكن، كما تبيّن في أميركا مع كارثة الرهن العقاري خريف عام 2008، لنعرف من ذلك أن البيت لا يملكه أحد، لا صاحبه، ولا البنك، ولا المستثمر، أو بكلمة مضحكة أكثر، يملكه الثلاثه دون أن يملكه أحد منهم! هل هناك ساحر أو ضارب بالرمل أو قارئ كف يمكنه أن يشرح لي هذا اللغز الذي يزيد عن عقدة الأسكندر؟ والحاصل؛ كندا جيدة، ولمدة ستة أشهر، مالم يصب المرء بالاكتئاب فينتحر، ليصبح دماغه في "بنك أدمغة المنتحرين" للتجارب في كيبيك..!