مرة أخري، يتضح أن العالم يمر كل بضع سنين بلحظة اختبار حقيقية، فبعد أحداث 11 سبتمبر كان على المسؤولين الأميركيين التصدي للتطرف الإسلامي واجتراح وسائل ناجعة في التعامل معه، لكننا اليوم نواجه اختباراً من نوع آخر يفرض على القادة حول العالم التوصل إلى حلول معقولة تعيد الاستقرار إلى الأسواق وتنظم التدفقات المالية شديدة التأثر. والحقيقة أن هذا المحك الحالي الذي يكاد يعصف بالاقتصاد العالمي يمتد بجذوره إلى التغير الحاصل في القوة الاقتصادية على مستوى العالم والذي من أهم ملاحمه صعود الصين، والثروات الهائلة التي راكمتها القوى النفطية، فضلاً عن السياسات المالية المرنة، ما أدى إلى خلق فائض كبير من المدخرات لا تعرف بأي مكان تلوذ. غير أن المال المتدفق ذهب إلى مجموعة محدودة من التجار لا يتجاوز عددهم بضعة آلاف، وقاموا ببعثرته أينما اتفق حول العالم بحثاً عن الربح السريع والمداخيل العالية، ويبدو أن هؤلاء التجار الذين تحولوا إلى مضاربين، يعيشون في عالم افتراضي أحدثته التكنولوجيا المتطورة الشبيه إلى حد كبير بالكهف الذي وصفه أفلاطون. وبدلا من رؤية الحقيقة مباشرة وإدراكها بحواسهم يكتفون برؤية ظلال الشموع وهي تتراقص على جدار الكهف التي تتحول في حالة التجار والمضاربين إلى أرقام تظهر على شاشات الكمبيوتر وعلى أساسها يصيغون تصوراتهم حول أفكار الغير ويحاولون توقع مسارات الأموال ومكامن الربح. ولأن المجد كله يذهب إلى النجوم المتلألئة في عالم المال، يبالغ التجار في المخاطرة سعياً وراء الربح وجني مزيد من المكاسب، لكن طبيعتهم البشرية تدفعهم إلى التخفيف من مشاعر عدم اليقين والشك في المعاملات المالية والاحتماء وراء تطمينات غالباً ما تكون خادعة وبعيدة عن الواقع. وبالاعتماد على نماذج الكمبيوتر، يضعون ثقة عمياء في تقديراتهم الخاصة التي تبررها أحياناً العمليات الحسابية المعقدة وترفعها إلى درجة الحقائق الثابتة، رغم طابعها الإنساني البحت واحتمالات الخطأ الكبيرة التي تحيط بها. كما أن بحثهم عن تطمينات إضافية لتسويغ مخاطرتهم تدفعهم إلى تبني تقنيات في عالم المحاسبة لتأكيد فرضياتهم وتبديد شكوكهم، لذا يصيغون منتجات مالية في غاية التعقيد تعِد "بخطورة صفرية" وذلك عبر تقسيم الخطورة إلى أجزاء متناهية الصغر وتوزيعها على أكثر من مؤسسة لتتبخر بعدها في الأثير. ومع أن الاقتصاديين يحذرون من "المجازفة في غير محلها" ومن "تبخر السيولة"، إلا أن البعض الآخر من مؤيدي التجار والمضاربين يخففون من مشاعر الخوف والقلق ويصكون عبارات مجوفة خالية من التحذير لوصف الواقع وفي أحيان كثيرة لتشويهه وإبعاد السيناريوهات السيئة عن دائرة التفكير. والحال أن اتخاذ القرار، لاسيما فيما يتعلق بالمضاربة المالية عالية الخطورة، هي عملية إنسانية بالأساس يصر المستثمرون على نكرانها فيتوزعون بين مشاعر إيجابية مغرقة في التفاؤل وأخرى سلبية مفرطة في تشاؤمها بعد أن تكون الكارثة قد حلت. وعندما يفقد التجار البوصلة الوجدانية يعتقدون بأن نجاحهم والأرباح التي حققوها هي نتيجة ذكاء خاص وليس لأنه حالفهم الحظ، أو ركبوا موجة مؤقتة سرعان ما ستتراجع وتخبو، بل تدفعهم الثقة الزائدة بأنفسهم إلى الاعتقاد بأن تقديراتهم الصائبة وحساباتهم الدقيقة قادتهم إلى النجاح وتحقيق الأرباح. وأثناء الذروة وتعاظم المكاسب يغرق هؤلاء التجار الأسواق العالمية والقطاعات الاقتصادية الأخرى بالمال، ودون وعي منهم يساهمون في تفكيك النسيج الأخلاقي لمناطق الاستثمار ويغرونهم باتباع الطريق ذاته حتى لو كانت تنقصه المسؤولية والاتزان. وهكذا تؤدي الأموال السهلة إلى قطع الصلة بين الأفعال ونتائجها ويكتشف القادة والمسؤولون أنه باستطاعتهم التحكم في عجز الموازنة المهول دون تكبد نتائج سلبية، بل ويضغط نواب الكونجرس على المؤسسات المالية والائتمانية مثل "فاني ماي" و"فريدي ماك" نحو مزيد من المخاطرة. وعندما تجد البنوك نفسها قادرة على الإقراض يميناً وشمالا وعندما يكتشف الناس أن الحصول على قرض أصبح سهلا وفي المتناول، تقرر العائلات شراء مساكن تفوق إمكانياتها الحقيقية لتبدأ المشاكل بعد العجز عن السداد. وما أن تسوء الأمور حتى تنقلب الوفرة المالية إلى ندرة في السيولة ويتحول التجار والمضاربون من حالة الانتشاء إلى حالة من الرعب وتنهار القيمة السوقية للأصول ويصل الجميع إلى طريق مسدود. وفي هذه اللحظات تقفز البنوك المركزية والمسؤولون في وزارات المالية لطمأنة المضاربين، والتظاهر بأنهم منشغلون بصياغة الحلول المناسبة، لكن الكثير مما يقومون به ليس أكثر من مسرحية سياسية، إذ يسعون في الحقيقة إلى التملق للمستثمرين وتبديد مخاوفهم المتصاعدة. والمشكلة ليست في الرهن العقاري، بل في النظام الذي يسمح بانتقال تريليونات الدولارات بصورة آنية ويضعها في أيد بشرية معرفتها محدودة مهما تذاكت، واحتمالات الخطأ دائماً واردة مهما كانت الحسابات دقيقة. هذا النظام كما يصفه "ديفيد سميك" في كتابه المتبصر "العالم ملتو: الأخطار المتربصة بالاقتصاد العالمي"، استطاع تحقيق مستويات غير مسبوقة من الازدهار والرخاء العالميين، لكنه في الوقت نفسه خرج عن السيطرة وانفلت من أية ضوابط قادرة على كبح جماح المخاطرة وإعادة الاعتبار إلى الاقتصاد الحقيقي. وحتى لو ضخت الأموال الطائلة والمقدرة بـ700 مليار دولار في شرايين النظام المالي، لا يتوقع الكاتب الوصول إلى حل قريب وناجع للمشاكل الاقتصادية المترتبة على المضاربة المالية ما دام العطب الحقيقي كامنا في هيكل النظام وليس في ملامحه العامة. ولتصويب الوضع المختل يعقتد الكاتب أنه يتعين على النخب العالمية الإجابة عن مجموعة من الأسئلة لعل أهمها على الإطلاق: هل نستطيع الاستمرار في نموذج التنمية القائم على تكديس بعض الدول للثروات وتخزينها في الولايات المتحدة؟