اقترح مسؤول عربي رفيع المستوى مؤخراً في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء منظمة إقليمية جديدة في الشرق الأوسط، وأوضح فكرته هذه في حوار نشرته إحدى الصحف العربية الرئيسية. وبغض النظر عن ردود الفعل التي أثارها الاقتراح فإن مناقشته أمر مهم، لأن من طرحه يعتبره الإطار الوحيد الذي يمكن من خلاله حل مشكلات المنطقة، ولأنه مشارك رئيسي في عملية صنع القرار في بلاده أو على الأقل معبر عنها، وبالتالي فاقتراحه ليس مجرد فكرة عابرة يطلقها مفكر أو مثقف أو خبير، وإنما قد يكون نواة لتوجه جديد في سياسة بلاده. غير أنه قبل المناقشة لابد من التذكير بأساسيات الفكرة كما طرحها صاحبها. تتمثل الفكرة في اقتراح بإنشاء منظمة إقليمية جديدة تجمع الجميع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دون استثناء، وتتجاوز الأعراق والأديان، وعليه فالمنظمة الجديدة المقترحة ستضم بداهة إسرائيل وإيران وتركيا والدول العربية. وللدفاع عن الفكرة يتساءل صاحبها: "ألسنا جميعاً أعضاءً في منظمة اسمها الأمم المتحدة على أساس عالمي؟ لماذا ليس على أساس إقليمي؟ هذا هو السبيل الوحيد لحل مشاكلنا وليس هناك من طريق آخر لحلها اليوم أو بعد 200 سنة". ويواصل صاحب الفكرة تساؤلاته قائلاً: "لماذا لا نجلس مع بعضنا حتى ونحن مختلفين، حتى وإن كنا لا نعترف ببعض؟"، ويجيب بما يفيد بأن وجود جميع هذه الأطراف في منظمة واحدة سوف يساعد على تجاوز المرحلة الصعبة التي يمر بها الشرق الأوسط، والتي ما تزال رهينة الماضي. وعندما يسأل عما إذا كانت الفكرة مجرد حلم، فمن الذي سيأتي ليجلس مع إسرائيل؟ يجيب بأن كثيراً من الأحلام أصبح واقعاً. وثمة مداخل عديدة لمناقشة هذه الفكرة المهمة نركز منها على اثنين، أولهما مدى تأثيرها على النظام العربي الرسمي ومنظمته الإقليمية، وثانيهما مدى فعاليتها في حل مشكلات المنطقة. أما عن مدى تأثيرها على النظام العربي الرسمي ومنظمته المعبرة عنه أي جامعة الدول العربية فإنه من البديهي أن دوائر التنظيم الدولي متعددة، تبدأ بما هو دون الإقليمي وتصل إلى الإقليمي ثم العالمي، وليست هناك مشكلة في أن تكون عضواً في منظمة إقليمية ما ثم في أخرى أوسع منها وصولاً إلى العضوية في منظمة عالمية، لكن المشكلة تتمثل في حال العرب الآن، وللأمانة فإنهم في حال سيئ بدون هذه الفكرة، لكن حالة الوهن البالغ التي أصابت النظام العربي تعني أنه سيدخل إلى منظمة كهذه ـ لو تم تأسيسها ـ وهو في أشد حالات التفكك وتشتت الرؤى ونقص الفاعلية إن لم يكن غيابها. وعليه فإن قوى إقليمية تعرف ما تريد وتسعى حثيثاً لتجسيده على أرض الواقع كإسرائيل وإيران وتركيا يمكن أن تفتك بالمصالح العربية فتكاً. وقد يقال إن هذا عيب العرب وليس عيب الفكرة، وقد يكون هذا صحيحاً، لكنه يعني ببساطة أن التوقيت من وجهة نظرنا لتطبيق هذه الفكرة قد لا يكون الآن، وإنما يمكن التفكير فيها بعد أن يلتقط النظام العربي الرسمي أنفاسه ويستعيد تماسكه وسيكون من ثم قادراً على الوقوف موقف الند مع قوى إقليمية فاعلة ورئيسة كإسرائيل وإيران وتركيا. أي أنه يتعين علينا بداية أن نصلح ذات البين العربي قبل أن نفكر في الدخول في إطار إقليمي أوسع يمكن له أن يقضي على البقية الباقية من النظام العربي، ولا يخفى أن هذا هو الهدف الأصيل لكافة المبادرات الشرق أوسطية السابقة سواء كان مصدرها الولايات المتحدة أو إسرائيل. نأتي بعد ذلك إلى حديث الفاعلية، وإذا كان من الممكن أن نتصور اجتماع الدول العربية وإيران في إطار للحوار حول قضايا استراتيجية خلافية معلقة بين الطرفين، أو اجتماع الدول العربية ـ المعتدلة منها على الأقل ـ مع إسرائيل للغرض نفسه فإنه من الصعوبة بمكان ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن نتصور إمكان لقاء إسرائيلي ـ إيراني في الأمد القريب. ليس لأن هذا من رابع المستحيلات في السياسة، فلغة السياسة هي المصالح، ولو التقت مصلحة إيران وإسرائيل في لحظة زمنية ما من المؤكد أنهما ستلتقيان بشكل أو بآخر، غير أن هذه اللحظة ليست واردة الآن، فجزء من شرعية النظام الإيراني مستمد من مواقفه الخارجية، وبعد أساسي في هذه المواقف هو الموقف من الصهيونية عامة ومن إسرائيل ومستقبلها خاصة، ويجد هذا الموقف ترجمات لفظية وعملية كثيرة من أبرزها الخطاب السياسي الراهن للرئيس الإيراني والسياسة الإيرانية الداعمة لـ"حزب الله" في لبنان، ولذلك فإن أعمال المناورة المطلوبة كي يحدث لقاء إسرائيلي ـ إيراني تبدو الآن معقدة إلى حد بعيد، وبفرض إمكان حدوثها فإنها ستستغرق وقتاً طويلاً، وتتطلب مراجعات كثيرة لا تجعل "الحلم" الذي طرحه صاحب الفكرة قابلاً للتنفيذ في الأمد القصير وربما المتوسط. لنفترض بعد ذلك كله أن المعجزة قد حدثت فاجتمع الأضداد في هذه المنظمة الإقليمية. حينها سوف يجد العرب أنفسهم بلا مشروع شامل، وإنهم إزاء مشروعين رئيسيين لمستقبل المنطقة هما المشروع الأميركي ـ الصهيوني الذي يعرف الكافة ماذا يعني بالنسبة لمستقبل العرب (فلسطين والعراق نموذجاً) والمشروع الإيراني الذي يطمح إلى دور إقليمي مهيمن من المؤكد أنه يتقاطع في مواضع منه مع المصالح العربية، ولكنه يتعارض معها بشدة في مواضع أخرى، بالإضافة إلى المشروع التركي الذي يبدو حتى الآن أقل أهمية من المشروعين السابقين. هنا سيجد العرب أنفسهم في مواجهة سياسة إسرائيلية استعمارية استيطانية توسعية ترفض التراجع أو التنازل، لأن العرب لا يملكون أية أوراق للضغط عليها، أو بالأحرى لا يريدون استخدام ما بحوزتهم من أوراق مهمة لإجبار إسرائيل على تقديم التنازلات المطلوبة، وحتى إذا وُوجهت إسرائيل بضغوط إيرانية قوية فإن هذه الضغوط سوف توظف أولاً وأساساً لتحقيق المصالح الإيرانية وتأمينها وليس لأي شيء آخر. وسيجد العرب أنفسهم أيضاً في مواجهة المعضلة المزمنة للعلاقات مع إيران: علاقات مع شريك في الدين والحضارة، وهو لهذا يتبنى من المواقف ما يخدم عدداً من القضايا العربية الكبرى في مقدمتها القضية الفلسطينية، لكن هذا الشريك قوة إقليمية يعتد بها تنبثق سياستها الخارجية أساساً من طموحاتها ومصالحها التي تتصادم بالتأكيد مع مصالح عربية محددة، ومرة أخرى لا يبدو أن العرب حتى الآن قادرون على بلورة رؤية مشتركة تجاه العلاقات مع إيران، أو ممارسة أي نوع يعتد به من الضغط عليها، بل على العكس فإن إيران هي التي تبدو في السنوات الأخيرة قادرة على التغلغل في النظام العربي نتيجة عدم تنبه القوى الرئيسية في هذا النظام إلى أن غياب قدرتها على التأثير والفعل في منطقة من مناطقه يمثل دعوة صريحة لملء الفراغ، تعد إيران أكثر القوى ملاءمة لتلبيتها. لعل الخلاصة إذن واضحة: إن مكمن الضعف الرئيسي في هذه الفكرة هو أنها من منظور المصالح العربية تضع العربة أمام الحصان، والحصان هنا هو الطرف العربي الذي يجب قبل أن يدخل في أي ترتيب إقليمي جديد أن يصلح بيته من الداخل، ليس فقط بمعنى بيته العربي الشامل الذي يتنافر العرب داخله ويظهرون من فتور الهمة ما لم يحدث من قبل، وإنما أيضاً بمعنى البيوت العربية الوطنية أو القُطرية التي باتت بدورها تعاني من الانقسام الفعلي كالحالة الصومالية أو التهديد به كما في حالات عديدة لأقطار عربية بينها أقطار رئيسية. لنترك إذن حديث المنظمة الإقليمية الجديدة وحلمها ونشغل أنفسنا قليلاً بحال الأمة العربية ومستقبلها.