بلغت أعمال القرصنة البحرية على المستوى العالمي عام 2003 في بعض التقارير المتخصصة 445 عملية، وانخفضت إلى النصف تقريباً في العام الأخير، لكنها تضاعفت أمام السواحل الصومالية من 30 إلى 60 عملية! وفي هذا الإطار كله اشتهر خليج نيجيريا ومياه جنوب شرقي آسيا بهذه العمليات حتى بدا ظهورها المتأخر عن ذلك في الصومال ملفتاً... فماذا يعني كل ذلك؟ ولماذا حدث كل هذا الصخب الآن فقط، وحول الحالة الصومالية الأخيرة على وجه الخصوص، بينما سبقها اختطاف سفن كبرى لنقل المعونات الغذائية للشعب الصومالي، ولم يُثر كل هذا الضجيج؟ ومن حقنا أن نتساءل قبل أي تحليل عن مدى اعتبار اختطاف السفن بهذا الشكل وعلى مستوى عالمي، وبالارتباط بمصائر شعوب، ضمن عمليات الارهاب، التي يجب أن يقلق لها العالم مثلما يتحرق قلقاً مع خطط ومفاهيم إدارة الرئيس بوش وحده عن الإرهاب وأساليب مقاومته؟ والسؤال الآخر الذي قد يثيره البعض أيضاً، لأنه يثير الغبار على الموقف الغربي في مجمله عندما تتحكم معاييره وحده في تحريك "القوى العالمية " أو السكوت على" الأحداث الدولية " هنا وهنالك. والسؤال يتعلق بتطور أعمال القرصنة في المياه الصومالية أو تزايدها تدريجياً إلى حد الطمع في سفن كبرى، مثل التي تحمل 33 دبابة ومعدات وذخائر، بينما هناك واحدة من أكبر القواعد العسكرية في جيبوتي تضم قوات أميركية وفرنسية وألمانية، وفق اتفاق مسبق مع الفرنسيين، أصحاب الشأن في جيبوتي، وذلك لتأمين ممرات البترول وكمياته الاستراتيجية عبر المحيط الهندي ومدخل البحر الأحمر. كيف يمكن تفسير مضاعفة رقم عمليات القرصنة في هذه المنطقة من قبل جماعات لا تحميها دولة، وتعيش هانئة في شبه قرية ببلاد بونت في الصومال - دون أن تقترب منها الجيوش المدججة بالسلاح على بعد أميال من جيبوتي؟ الجميع يندهشون، مراقبون وباحثون ...وسوف أثير دهشة القراء أكثر بتذكيرهم بما كتبته مرة في (الاتحاد 18-12-2007) بتفصيل عن ذلك الشاب من جزر القمر ( عبدالله فضل) المتهم باشتراكه في تفجير سفارة الولايات المتحدة في نيروبي وتنزانيا... وبعد خمس سنوات تراقبه القوات الأميركية في أنحاء شرق أفريقيا وآسيا، حتى يأتي هارباً في قرية صومالية، وتأتيه زوجته (من جزر الكومورو أو القمر!) لزيارته، وإذ بطائرات أميركية محملة بالصواريخ تقذف القرية الصومالية وتدمرها على من فيها ممن يحيطون بالشاب القادم (من جزر القمر!). إذن هناك متابعة دقيقة لكل شبر على أرض الصومال، ومن يتحركون عليها من أهالي وزوارهم! فكيف تستقر فرق القراصنة على أرض "بلاد بونت"، وبينهم ضباط سابقون ومحاسبون متميزون ومفاوضون مهرة يلبسون البدل والكرافتات ونظارات الشمس، ويركبون العربات الفاخرة (وفق وصف أحد المراسلين)، وذلك على أرض" بلاد بونت"، التي تعيش منفصلة رسمياً عن الحكومة الصومالية غير القائمة، وتحت سيطرة أثيوبية على الصومال عموماً، دون أن تتوقف عمليات القرصنة التى ارتفعت من ثلاثين عملية عام 2007 إلى أكثر من ستين عام 2008 ! لم أكن أحب ترديد كل هذا الكلام ... لكنه يضعنا أمام عدة نقاط بالغة الحيوية عن دلالات الوقائع الأخيرة وما حولها خاصة فيما يتعلق بنا في الدول العربية: ـ نستطيع أن نتساءل بقلق عن مفهوم الإرهاب الذي تستعمله الدول الغربية، والدوائر الأميركية أكثر من غيرهاـ لتجعله قاصراً على قضية الحادي عشر من سبتمبر وحدها، إلى حد البحث عن المتهمين فرادى في العالم، ولا يهمها أن يتخذ الإرهاب شكل تدمير دولة مثل الصومال والمساعدة في بقائها مدمرة بهذا الشكل أو تدمير شعب مثلما في فلسطين أو العراق، ثم لا نراجع وفي كل لحظة، هذا المعيار المزدوج للإرهاب. ـ لماذا لا نتشكك في أن ترك الساحة للإرهاب في الصومال أو الجزيرة العربية أو المشرق والآن في مصر مرة أخرى ... مما يعتبر تأكيداً لسياسة أو حالة الفوضى البناءة التي تؤهل هذه المناطق للتدخل الأجنبي، تارة، أو تجعل النظم القائمة مؤهلة دائماً للاجتياح وتنفيذ السياسات المفروضة تارة أخرى؟ لماذا لا نضع ما يحدث في الصومال حتى الآن ضمن الإطار العربي، بل والتعاون العربي الأفريقي الجاد، خوفاً على مصالحنا الكبرى، فالصومال الآن مصدر الخوف على مدخل البحر الأحمر والخليج ...ذلك أن امتداد مافيات الإرهاب، مثل مافيات الفساد المالي وغيرها يمكن أن تتمدد بالفعل من خلجان الصومال، مثلما بدأت تمتد من الصحراء الكبرى جنوب الجزائر وتونس إلى جنوب مصر وليبيا وغرب السودان (أحداث اختطاف السياح بمصر). و لماذا لا يضع المسؤولون العرب هذه الاعتبارات مجتمعة على مائدة البحث الموحد لمسائل العراق وفلسطين والدولة الصومالية ؟ ـ ثم تأتي المسألة السودانية، التي تُلمح الوقائع المتعلقة باختطاف السفينة الأوكرانية المحملة بالدبابات والذخيرة بمعرفة صوماليين وأمام سواحل ممباسا إلى ملامح كارثة سياسية جديدة وهذه رابع سفينة يذكر أن اتجاهها إلى السودان، بما يثير القلق فعلاً حول موقف جنوب السودان من شماله، أو موقف الشمال المحتمل تهوره أو تدهوره، أو دور كينيا ومجموعاتها الحاكمة في أعمال تضر السودان(حتى عبر قنوات الفساد والتهريب)، مما قد يجعل من شرق أفريقيا منطقة اضطراب شاملة مع القرن الأفريقي وليس مع حوض النيل وحده؟ ـ هل أصبح من الدلائل أيضاً والخطير في الأمر أن تدخل بلدان الشرق الأوروبي وخاصة بلاد مثل روسيا وأوكرانيا مدفوعة بتجارة السلاح القذرة إلى قلب المنافسات المحمومة على السودان الشقيق، وكأنه لا تكفيه منافسات الأميركيين والفرنسيين والصينيين... ليبدأ فرزاً داخلياً جديداً يطيح بمستقبل الوحدة الوطنية؟ إن تعقيدات عملية القرصنة وأطرافها لم تكشف بعد عن اتجاه السلاح الذي حملته السفينة الأخيرة، هل كانت لجنوب السودان أم لشماله أم لوسطاء كينيين؟ ولماذا تُصر المصادر الأميركية الرسمية أن السلاح متجه إلى السودان مخالفة لقرارات المقاطعة؟ هل لتضع السودان ضمن خطط الضغط أو الضربات السريعة بدورها؟ كل هذه الأسئلة تجعل "الإرهاب الدولي" يتخذ معنى "دولياً"واسعاً ومختلفا عن مجرد البحث عن ....ابن جزر القمر الذي هرب إلى قرية صومالية!