العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى عالم اليوم يخرج ويتبلور بوضعهِ وحقيقتهِ كما يتراءى لنا من مدرستين، الواقعية والليبرالية، والمدرستان تحاولان تفسير العالم بأن له ضوابط ونظريات وأطراً من التفاعلات والعلاقات. وإذا كانت هذه التفاعلات والعلاقات أقل وضوحاً اليوم وأكثر عشوائية، إلا أن المدرستين تخبران بالكثير عن أحوال وحقائق هذا العالم في محاولات تؤثر كلها في هذا العالم. ولنا في المدرستين ما يوضح لنا أحداث الفترة الراهنة في القضايا الأكثر تهديداً لأمن العالم واستقراره، فالمدرسة الليبرالية بمفكريها ومنظريها وروادها ترى العالم من خلال القوانين والأعراف الدولية والدبلوماسية، وتؤمن بالأخلاق والقيم والأمن المشترك بين أجزاء هذا العالم من الدول وغير الدول. ولا ترى هذه المدرسة الليبرالية أن الفاعل الوحيد والمهم هي الدولة، بل ترى ما هو أهم من بعض الدول حيث تعتنق هذه الإطار العالمي الذي يتجاوز الدولة كالمنظمات العالمية والديمقراطية والحرية الإنسانية التي لها حضورها الكبير، وتجعل بدورها العالم أكثر استقراراً وأمناً. ومن هنا فإن دول العالم والمجتمعات والبيئة التي يحيا فيها الإنسان تشترك في أهداف عالمية وتطبق القانون وتتعاون فيما بينها وتتصل وكأنها، تحاول جعل القانون والديمقراطية والأهداف المشتركة والقيم الإنسانية، المنظار الذي يستطيع رؤية الأمن والسلام في هذا العالم، ثم تسعى لتحقيقه. أما المدرسة الواقعية، فهي ترى أن هذا العالم ما زال يمثل الدولة وسعيها إلى القوة والمصالح الخاصة، بل إن هذه المدرسة ترى أيضاً أن الدول كالإنسان الذي تُحتِّم عليه غريزتُه البحثَ عن القوة والسلطة وكأنه في غابة، فوظيفة الدولة هي الحفاظ على أمنها الإقليمي، الأمر الذي يحتم عليها البحث الدؤوب عن القوة وخلق التحالفات، والمصالح. وتستند الواقعية في تحليلها هذا إلى التاريخ الإنساني الذي تنظر فيه إلى العالم من منظار الشك وحتمية الصراع. وإذا أخذنا منظمة الأمم المتحدة كمثال للمدرستين نجد الاتجاه الليبرالي يعتمد عليها في ضبط هذا العالم والحفاظ على أمنهِ واستقرارهِ، فدول المنظمة تخضع لمبادئها وقوانينها، وكأن المنظمة بكل ما تحمل من مبادئ وقوانين فاعل عالمي يسعى إلى السلام والأمن، وفي المقابل توجد دول تسعى إلى التظلل تحت هذه المنظمة العالمية مستفيدة من الأهداف والمبادئ والهياكل، وتتحرك في علاقاتها على هذا الأساس. أما المدرسة الواقعية، فترى أن هذه المنظمة انعكاس للدول وإراداتها، بل إن فعاليتها تتوقف على الدول الكبرى وتتأثر بميزان القوى العالمي، وهنا كأن القوة "الغابية" للدول الكبرى، هي المسؤولة عن ضبط مبادئ هذه المنظمة والحفاظ عليها، أي أن العدالة القانونية تحتاج إلى قوى الغابة في تحقيقها، وهذا يصح في الكثير من الحالات، فعندما اختل التوازن بين الدول الكبرى لصالح الولايات المتحدة، رأينا تجاوز واشنطن لهذه المنظمة، كما لعبت الولايات المتحدة أدواراً كبيرة في تطبيق مبادئ وميثاق الأمم المتحدة مثل تحرير الكويت. وهنا مثال صارخ لفعالية الدول الكبرى في تطبيق بعض القوانين عبر استخدام واشنطن مبدأ التدخل الإنساني في العالم، وهو مبدأ من العدالة، له تاريخ قديم مثل نداء "وامعتصماه"، وربما كان لكل عصر معتصِمُه. وجدير بالذكر أن جميع الدول تأخذ بسياساتها من المدرستين؛ فالدول المتوسطة والصغيرة لا تكتفي بما تفرضهُ الأمم المتحدة وتوفرهُ من أمن واستقرار وحقوق وواجبات، بل تمارس سياسات واقعية كالتحالف مع دول كبرى. وإذا كنا نرغب في معرفة العالم، علينا الإمعان في المدرستين، أما إذا رغبنا في رؤية عالم اليوم، علينا أن نستنجد بكتب ومنظري المدرسة الواقعية، لأنها تُصور حالة الدول الكبرى والصراع الدائر، وتصور السبل والأطر، التي تفرزها الدول الكبرى في العلاقات الدولية وغير الدولية. فعن واشنطن ونيودلهي وبكين وموسكو تقول المدرسة الواقعية إن النظام الدولي يصنعهُ الكبار ليس باقتصادهم وتكنولوجيتهم فقط، بل المعيار الأول هو القوة العسكرية المدمرة، ولنا دليل واضح في تصريح نائب وزير الدفاع الروسي "بوبوفكين"، الذي قال: ما دمنا دولة نووية، لن يجرؤ أي حمقى على مهاجمة بلادنا، فروسيا دولة نووية عملاقة. وتصدُق المدرسة الواقعية في أحداث روسيا مع جورجيا، فماذا فعل العالم بكل دولهِ بل بمنظمة الأمم المتحدة أيضاً؟ فروسيا دولة لا تستطيع المنظمة حملها على سياسات معينة، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، ومن ثم فإن العدالة القانونية لا تستطيع تغير "العدالة الغابية"، أي قوى الغابة، بل إنها تحتاج إليها في تطبيق القانون وإحلال الأمن. وعند الإمعان في الاتفاق النووي السلمي بين واشنطن ونيودلهي الذي يدوم أربعين عاماً، نجد أن واشنطن ترغب في جر الهند نحوها خاصة أنها قوة كبرى صاعدة، أضف إلى ذلك أن دخول الشركات الأميركية في مجال الطاقة يوفر مكاسب بالمليارات، إلى جانب مكاسب أخرى كمنع انتشار الأسلحة النووية وتحييد بكين وجعل الهند واجهة مستقبلية للمصانع والشركات الأميركية بدلاً من الصين، وجعل الصين تتوجس من واشنطن ونيودلهي وتَصرِف جزءاً من اقتصادها على التكنولوجيا النووية والقدرات العسكرية والأمنية، ومما لاشك فيه أن واشنطن ترغب في تقويض أي تحالف بين روسيا والصين والهند. ولا يخلو الاتفاق النووي بين الهند والولايات المتحدة من ردود فعل الدول الكبرى، فإذا كان هذا التقارب والتعاون يُحسَب لواشنطن والكتلة الغربية، فإن روسيا والصين ربما تعملان على تقارب وتعاون سياسي واقتصادي وتكنولوجي كبير جداً، كما أن باكستان، الحليف التاريخي لواشنطن، ربما يرى مصالحهُ مع موسكو وبكين إذا لم تسارع واشنطن إلى خلق أطر تعاونية نووية سلمية لتطوير الاقتصاد الباكستاني، سيما أن باكستان جهرت برغبتها في أطر من هذا النوع، وذلك لخاصية الردع النووي بين الهند وباكستان ومعضلة الفقر والتنمية، كما أن كوريا الشمالية وبرنامجها النووي، أصبحت معضلة أمام واشنطن وورقة استراتيجية متاحة للدول الكبرى. فماذا تفعل واشنطن بهذا العالم، هل غاب زمن القادة الكبار في الولايات المتحدة؟ واشنطن التي ذهبت إلى نيودلهي وتجاهلت موسكو، لم تجد من موسكو إلا خطابات عن القوة النووية الضاربة وعن التمسك بطهران، حيث عبرت روسيا في تصريح لوزير خارجيتها "سيرجي لافروف" عن أنها لن تقبل أي مساومات على حساب الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولن تغير مواقفها المسؤولة عن الملف النووي، وأضاف أن الضغط على طهران أو توجيه ضربة عسكرية لها سوف يعقد الوضع في الشرق الأوسط لأمد طويل، وسوف يأتي بنتائج وخيمة على الأسرة الدولية، ودعا الوزير إلى حل الملف النووي عبر القنوات الدبلوماسية والسياسية وعبر وكالة الطاقة النووية.ولكن رمى بعالم اليوم في أحضان المدرسة الواقعية، بينما في حاجة ماسة إلى الدخول واعتناق أفكار ومبادئ وقيم المدرسة الليبرالية. إن الدول الكبرى اليوم هي الراغبة في إدخال هذا العالم إلى المدرسة الواقعية وتطبيق نظرياتها واستراتيجياتها عليه، والدليل الواضح ما فعلتهُ واشنطن منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتجاهل الكثير من القوانين الدولية والإنسانية ورغبتها في قيادة العالم بوضع ريادي يتم فيه تجاهل قوى كبرى أخرى، كما أن روسيا أيضاً ترغب في رؤية قوتها وحضورها والتأكيد بأن هذا العالم به قوى أخرى لا يمكن تجاهل دورها ومصالحها وأمنها، والصين بدورها في تقدم اقتصادي وصناعي وتكنولوجي، وبلوغها الفضاء يعني الكثير في القوة للدول الكبرى. واشنطن تعزف الناي للكوبرا الهندية، لكي تكسبها في مصالح مشتركة ومتعددة، ولكن هذا العزف يثير غضب الدب الروسي والتنين الصيني، وهو ما يجعل أمن العالم بأسرهِ واستقراره في عقول وسياسات الدول الكبرى التي لا تعدو أن تكون طلابا في المدرسة الواقعية يرغبون في القوة وتحقيق المصالح وتغيير أطر العالم ثم يعودون بعد ذلك إلى بعض مبادئ المدرسة الليبرالية.