في المغرب أثارت فتوى أحد الفقهاء من الشيوخ السلفيين حول زواج البنت في سن التاسعة ضجة هائلة في الشارع والأوساط العلمية والأهلية، أفضت إلى إغلاق مدارس الفقيه المتشدد التي كانت تنتشر في كل مناطق المغرب. في الفترة ذاتها كان أحد الفقهاء السعوديين المشهورين قد أفتى بتكفير القائمين على الفضائيات العربية بحجة كونها تنشر الرذيلة وتدعو للفساد والمعصية، ومن قبله ذهب آخر إلى تكفير الليبراليين باعتبارهم خارجين على الملة والعقيدة السليمة. ولا نحتاج للتذكير بالفتنة الواسعة التي خلفتها فتوى الفقيه الأزهري في السنة الماضية حول رضاع الكبير لإباحة اختلاط الموظف بزميلته انسجاماً مع قول معروف في التراث الفقهي الوسيط. تُحيل هذه الأمثلة إلى أزمة حقيقية تعاني منها صناعة الفتوى في العالم الإسلامي، التي ينتظمها محددان بارزان هما مسلمات ومنطلقات العقل الفقهي الراهن، الذي صدرت عنه هذه الأحكام المثيرة : أول هذه المحددات يتمثل في الالتزام برأي الجمهور، أي القول الأقوى الأظهر لدى المذاهب السُنية الأربعة، ونبذ الأقوال الشاذة والضعيفة، ومنع الاجتهاد في المسائل التي تعرض لها الفقهاء السابقون بالحكم والفتوى. وتغفل هذه المسلمة كون التراث الفقهي الحالي، هو في الواقع حصيلة صياغة انتقائية متأخرة لتقليد فقهي ثري وواسع ، سواء تعلق الأمر بالمدارس والمذاهب الفقهية، التي كانت كثيرة ومتنوعة كما تبين لنا كتب الملل والنحل والدراسات الأخيرة حول تاريخ المذاهب الفقهية (ككتب وائل حلاق مثلًا التي ترجمت مؤخراً للعربية) أو بالمذاهب الفقهية الحالية نفسها، التي خضعت لمراجعات وصياغات متتالية تدل على أن المدونات الراهنة ليست مرجعية ضاغطة وسقفاً مغلقاً مانعاً للاجتهاد والتجديد. أما المحدد الثاني، فهو الالتزام بالمنهجية التأويلية الموروثة عن التقليد الأصولي، كما تُشكل تدريجياً من القرن الثاني الهجري عبر أصول الإمام الشافعي وأتباعه من شافعية القرنين الرابع والخامس، مع الاستئناس بقواعد الفقه الحنفي ومنظومة المقاصد الشاطبية المالكية. والواقع إن هذه المدونة غنية خصبة، إلا أنها على عكس التصور السائد، لم تكن هي الإطار المنهجي لفقه العصور الوسيطة، بل إنها كانت صياغة ابستمولوجية متأخرة لهذا الفقه، انسجاماً مع القاعدة المعروفة في تاريخ العلم، التي تقرر أن الأصول المنهجية لاحقة بالضرورة على العلم لا سابقة عليه. فمن الخلف إذن محاولة إبداع فقه جديد بحسب مقاييس أصول الفقه الوسيط. ثم تتعين الملاحظة هنا أن المدونة الأصولية التقليدية تتمحور حول محددين رئيسيين هما: النص المرجع أي القرآن الكريم والسُنة الشريفة وآلية القياس، أي قياس التمثيل الذي يلتزم مرجعية النص أصلًا يبنى عليه. أما الإجماع الذي يحتج به، فهو الإجماع المؤسس على النص.ولذا فإنها ترتد عند التحليل إلى منحى تأويلي للنص، وآلية منهجية هي آلية القياس. ومن هنا يتركز الإشكال في المسألة التأويلية التي نادراً ما تحظى بمعالجة نظرية عميقة.فالموقف التأويلي التي تتأسس عليه المنهجية الأصولية التقليدية يقوم على مسلمتين خاضعتين للنقاش هما: -فهم النص وفق سياق الفهم لعصر التنزيل، أي ما عبر عنه القدماء بمنطوق العرب ومألوفهم في الكلام، مما ترشد إليه كتب البيان والبلاغة والنحو التي أُلِفت لاحقاً. -التوسع في (النص- المرجع) ليشمل فضلاً عن السُنة الشريفة التي اعتبرت مصدراً مستقلاً عن القرآن الكريم تنسخ أحكامه أحياناً اجماعات الصحابة وسُنة الخلفاء الراشدين واجماعات التابعين. أما المسلمة الأولى، فتغفل تلك الحقيقة التي بينتها اللسانيات الحديثة، وهي أن القراءة ليست أحادية الاتجاه، بل إن المتلقي عنصر فاعل في إنتاج المعنى، لا يكتفي باستقبال الرسالة، بل ينتج الدلالة عبر تلقيه للنص. وليس من المتاح إعادة بناء سياق الاستقبال الأصلي، كما يبين اختلاف الروايات، التي سردت لنا المراحل الأولى من تاريخ الإسلام، التي تأثرت كما هو معروف بمحنة الفتنة التي مزقت صفوف الأمة في نهاية عصر الخلافة الراشدة. فالتماهي إذن مع النص الأصلي غاية لا تدرك لأسباب تاريخية ونظرية جلية، فكيف لو كان النص الأصلي وحيا منزلًا "حمال أوجه" حسب عبارة الإمام علي كرم الله وجهه؟ ألا يكون ادعاء كشف دلالته المطلقة مساً من قدسيته وإسقاطاً لفهوم البشر المحدودة الضيقة على نص كريم ثري "نزل ولا يزال يتنزل"، كما قال أحد علماء السلف الأوائل؟ أما المسلمة الثانية، فتطرح إشكالات عصية وحساسة، يتعلق إحداها بظروف تدوين السُنة وطبيعة أسانيد الحديث الشريف، منبهين هنا إلى أن الأصوليين الأوائل، وإنْ أجمعوا على اعتبار السُنة شارحة للقرآن الكريم مبينة له مكملة لاحكامه، إلا أنهم اختلفوا أشد الاختلاف في الأخذ بنصوص الحديث لأسباب تتعلق بالأسانيد، التي هي في غالبيتها ظنية لا قطعية (باستثناء الأحاديث المتواترة التي لا ينعقد الإجماع إلا على نصوص قليلة محدودة منها). ومن هنا ندرك كيف غلّب أبو حنيفة الرأي على أحاديث الآحاد، وكيف غلّب عليها مالك عمل أهل المدينة، وإنْ كان التقليد الأصولي انتهى إلى التأثر برأي أهل الحديث من الحنابلة، (الذين لم يكونوا يصنفون في البداية من الفقهاء)، فأصبحت الأحاديث الآحاد حجية القرآن الكريم ثم ألحقت بها سيرة الخلفاء الراشدين وسلف الأمة الصالح. أما القياس ففضلاً عن كونه لم يكن موضوع إجماع (راجع موقف ابن حزم في المسألة)، إلا أنه انتهى منذ الجويني والغزالي اللذين أعادا تأسيسه على المنطق الأرسطي إلى مجرد تعليل لغوي شكلي على الرغم من الإمكانات الخصبة لقياس التمثيل كما قننها الكلاميون. ومن هنا ندرك أزمة الإبداع التي وصل إليها المنهج الأصولي في القرن التاسع، مما نجد علاماته بارزة في كتب الشاطبي الذي دعا الى إعادة تأسيس الأصول بحسب مقاصد الشرع، كما نجدها في رسالة الإمام الطوفي الحنبلي في دعوته الصريحة لتقديم المصلحة الراجحة على النص، وفي قراءة ابن خلدون العميقة لأصول الفقه في مقدمته. ولئن كان الإصلاحيون النهضويون(محمد عبده وبن عاشور وعلال الفاسي...) قد حاولوا البناء على هذه الأطروحات الواعدة، إلا أن العقل الفقهي نكص بوضوح عن هذا السقف التجديدي، كما بينت النماذج التي ذكرناها في بداية هذه المقالة. د.السيد ولد اباه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب وأستاذ جامعي موريتاني