هل ينجح كريستوف هيل في إقناع كوريا الشمالية بعدم تنفيذ تهديداتها بإعادة العمل في مفاعل "يونج بيون" النووي؟ وصلَ الدبلوماسي الأميركي هيل، أول أمس السبت، إلى بكين في إطار جولة شملت الكوريتين أيضاً، وتقوده بعد ذلك إلى اليابان. وفيما عدا بيونج يانج، فإن المحطات الأخرى لهيل في هذه الجولة، هي زيارات للتشاور والاطلاع والتباحث، أما المحطة الفاصله فكانت بيونج يانج بلا منازع. صباح الأربعاء الماضي، وصل هيل إلى عاصمة الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية المقسمة، مستخدماً الطريق البري، وقد عبَر المنطقة المحصنة ومنزوعة السلاح بين الشطرين، على متن سيارة تحمل العلم الأميركي. أما ما جرى بعد ذلك بين هيل ومسؤولي جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية، وما انتهت إليه محادثاته معهم، فلا يزال طي الكتمان الشديد. لكن الأرجح أن إحجام بيونج يانج عن إعطاء أي تصريحات، سلبية كانت أم إيجابية، حول مباحثات هيل، يعني أنها (أي المباحثات) أفضت إلى اتفاق على تسويةٍ من نوع ما للخلاف الحالي. ويعضد هذا الاحتمال ما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية الأسبوع الفائت، من أن أحد المقترحات التي بلورها هيل مؤخراً، بهدف إنقاذ الاتفاق المبرم مع بيونج يانج، أن تقوم واشنطن بشطب اسم كوريا الشمالية من لائحة "الدول الراعية للإرهاب"، يلي ذلك إعلان الصين قبول كوريا الشمالية بنظام التحقق من تفكيك برنامجها النووي، بحيث يمكن للأخيرة الادعاء بعدم التراجع عن موقفها. وبالطبع فإن فكرة "تفاوضية" كهذه، ليست غريبة تماماً على نوعية تفكير هيل وتكوينه وماضيه في الاحتراف الدبلوماسي وإدارة المفاوضات. فهو نائب وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ، ويتولى رئاسة الوفد الأميركي في المحادثات السداسية حول البرنامج النووي لكوريا الشمالية، البرنامج الذي توليه إدارة بوش أهمية كبرى، وترى أن تفكيكه إحدى الضرورات الحتمية لحماية أمن الولايات المتحدة وحليفتيها في ذلك الجزء من آسيا، أي اليابان وكوريا الجنوبية، وكذلك لمنع وصول السلاح النووي أو الخبرة النووية إلى أيدي دول أخرى أو جماعات معادية لأميركا. من هذا المنطلق أوكل بوش إدارة ملف التفاوض لتفكيك "نووي" كوريا إلى "أحد أكفأ الدبلوماسيين الأميركيين". فقد شغل هيل مناصب عديدة في وزارة الخارجية، وعمل سفيراً لبلاده في عدة دول أوروبية وآسيوية، وهو حاصل على شهادة الماجستير من الكلية العسكرية البحرية، وعلى شهادة في الاقتصاد، ويتمتع (وفقاً لعارفيه) بمزايا شخصية تجعله مفاوضاً بارعاً يستطيع الحصول على ما يريده من الطرف الآخر. وهيل ليس غريباً على بيئة العمل الدبلوماسي، فقد ولد لأحد دبلوماسيي الخارجية الأميركية عام 1952، وسافر منذ صغره إلى العديد من البلدان التي عمل فيها والده. وحين تعرض الدبلوماسيون الأميركيون في هاييتي للطرد، انتقلت أسرة هيل إلى بلدة "ليتل كوميتون" في انيو انجلاند حيث التحق بمدرستها، ثم ذهب إلى كلية "بودوين" بنفس الولاية ليتخرج منها بشهادة في الاقتصاد عام 1974. في ذلك العام انضم هيل إلى "هيئة السلام" حيث ذهب للعمل متطوعاً في الكاميرون حتى عام 1976. وفي العام التالي أصبح موظفاً في وزارة الخارجية، وتقلب بين عدة إدارات فيها قبل تعيينه مستشاراً اقتصادياً بالسفارة الأميركية في سيئول بين عامي 1983 و1985. بعد ذلك عاد إلى وزارة الخارجية في واشنطن وشغل فيها عدة وظائف أيضاً، إلى أن عين عام 1996 سفيراً في مقدونيا، وفي عام 1999 مبعوثاً خاصاً إلى كوسوفو، ثم سفيراً في بولندا بين عامي 2000 و2004، ومنها إلى جمهورية كوريا حيث قال للصحفيين يوم وصوله إلى سيئول: "كنت هنا من قبل، ولن أكتفي بخبرتي السابقة، بل أعتقد أنني بحاجة أيضاً للاستماع إلى آراء كثير من الناس لفهم ما يجري حالياً". لكن فترة عمله في سيئول لم تزد على العام ونصف العام، حيث رشحه بوش، في نوفمبر 2006، لمنصب مساعد وزيرة الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ، وهو ثاني أعلى منصب في سلك الدبلوماسية الخارجية الأميركية. كان هيل عضواً في فريق التفاوض الذي أشرف على تسوية قضايا البلقان، حيث عمل بشكل وثيق مع ريتشارد هوليبروك وكان بمثابة نائبه في إدارة محادثات اتفاق "دايتون" للسلام عام1995. وقد وصف هوليبروك مساعده هيل، في كتاب عن مفاوضات "دايتون"، قائلاً إنه "يجيد الجدل الخلاق، ولا يعرف الخوف"، وإنه "بارد وعاطفي في آنٍ معاً" وصاحب "مهارات جيدة للغاية في فن التفاوض". أما هيل فقال إن مفاوضات "دايتون"، مع البوسنيين والصرب والكروات، كانت ناجحة لأن جميع الأطراف "كانت مستعدة للتسوية الشاملة". لكن ماذا عن المفاوضات حول "نووي" كوريا الشمالية، وهل أطرافها "مستعدة للتسوية الشاملة" هي كذلك؟ في الـ24 من سبتمبر المنصرم، قامت كوريا الشمالية بطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، معلنة أنها تريد إعادة تشغيل منشآتها النووية في غضون أسبوع، مما أثار قلقاً أميركياً من احتمال تخلي بيونج يانج عن التزاماتها السابقة بوضع حد لأنشطتها النووية. وقد جاء طرد المفتشين بعد أن قطعت كوريا الشمالية بالفعل خطوات واسعة نحو إنهاء مشروعها النووي منذ نوفمبر 2007، بما في ذلك تفكيك 80 في المئة من مجمعها النووي الرئيسي في "يونج بيون". وقد عللت كوريا الشمالية إيقاف خطوات التفكيك بقولها إن الولايات المتحدة لم تف بأي من التزاماتها لبيونج يانج مقابل تخليها عن برنامجها النووي. أما واشنطن فردت بالقول إنه يتعين أولاً التحقق من أن كوريا الشمالية قد كشفت بالكامل جميع جوانب برنامجها، فيما اعترضت الأخيرة قائلة إن الإيضاحات الخاصة بالتحقق من عمليات التفكيك ليست ضمن اتفاقها مع "السداسية". وقد تكونت "اللجنة السداسية"، في عام 2003، بعضوية كل من الولايات المتحدة والصين والكوريتين وروسيا واليابان، وذلك عقب انسحاب كوريا الشمالية من معاهدة منع الانتشار النووي. وأجرت اللجنة بين عامي 2003 و2007 خمس جولات من التفاوض، أفضت المرحلة الأخيرة منها في يناير 2007 إلى موافقة كوريا الشمالية على إغلاق منشآتها النووية مقابل معونات لتوليد الطاقة، ورفع اسمها من القائمة الأميركية للدول المتهمة برعاية الإرهاب، واتخاذ خطوات نحو تطبيع العلاقات الدبلوماسية والتجارية بينها وبين كل من الولايات المتحدة واليابان. لكن الاتفاق تعرض لانتكاسة شديدة قبل أسبوعين من الآن، على خلفية المواقف "الانتصارية" التي ما فتئت تباهي بها الولايات المتحدة منذ قيام كوريا الشمالية بتدمير برج التبريد في مفاعل "يونج بيون" في يونيو الماضي، علاوة على ما تعلل به الجانب الكوري الشمالي من أن الولايات المتحدة تقاعست عن تنفيذ تعهداتها بموجب الاتفاق، إلى جانب إلحاح واشنطن الشديد على آلية للرقابة خارج الاتفاق نفسه. ولم يكن هذا الإلحاح وذلك التقاعس وذاك التباهي، إلا وليد تصورات أميركية حول "نووي" كوريا الشمالية، يعد هيل أحد واضعيها أيضاً... وكان من شأن ذلك بالتأكيد أن يزيد مصاعب مهمته الأخيرة في بيونج يانج، أي يعيق فكرته "التفاوضية"! محمد ولد المنى