كان المعلقون يحبسون أنفاسهم انتظاراً للمناظرة بين المرشحين لمنصب نائب الرئيس، وهما المرشح الديمقراطي "جو بايدن"، والمرشحة الجمهورية "سارة بالين"، ونظراً للهفوات الكلامية المتكررة لـ"بالين" خلال المقابلات التلفزيونية التي أجرتها من قبل، فإنه كان هناك توقع بأنها قد تدمر نفسها في تلك المناظرة المنقولة على الهواء مباشرة للجمهور في كافة أنحاء الولايات المتحدة. ولم يحدث هذا.. بل إن الذي حدث بدلاً من ذلك هو أن "بالين" اتبعت استراتيجية منضبطة خلال تلك المناظرة، حيث لم تجب على كافة الأسئلة التي وجهت إليها، وعملت بدلًا من ذلك على إلقاء سلسلة من الكلمات القصيرة المعدَّة سلفاً، لاستهلاك الوقت المخصص للمناظرة، ولم تتعثر في النطق، وبدت بشكل عام في صورة المرأة القادرة على إقناع مؤيديها. وكان هذا هو ما توقعته تماماً من" بالين"، حيث كان رأيي منذ البداية أننا عندما نقيِّم أداءها في المناظرة، فإن المهم ليس التركيز على ما لا تعرفه، وإنما تمحيص ما تقوله وتعرفه. تحدثت "بالين" عن السياسة الخارجية، فحاولت أن توحي بأن لديها خبرة في الشؤون الدولية لأنها عاشت -وتحكم الآن- ولاية تقع بين دولتين هما الولايات المتحدة وروسيا (على رغم أن العيش في تلك التخوم الثلجية النائية المطلة على خليج "بيرنج" يمنح الإنسان إحساساً هائلًا بالعزلة، ولا يؤدي به إلى أن يصبح خبيراً في الشؤون الدولية). واعتبرت "بالين" أن زيارتها العام الماضي لمنشآت عسكرية أميركية في ألمانيا، ودول أخرى، والتجوال لمسافة ربع ميل فقط في العراق، قد جعلتها أكثر معرفة بالعراق والمنطقة (قد تكون تلك الزيارات جعلتها فعلاً أكثر قدرة على تلمس احتياجات ناخبيها المنتشرين في الخارج، ولكنها لا تؤدي بالطبع إلى المعرفة الكافية بتلك الدول). وعندما وقع اختيار فريق ماكين على" بالين" كان أفراده يعرفون مزاياها ومؤهلاتها جيداً وهي: مرجعية مسيحية محافظة قوية، وطموح غير محدود، وحضور لافت، وحقيقة أنها امرأة. ولكنهم كانوا بالتأكيد يعرفون نقاط ضعفها أيضاً، ومنها عدم إلمامها بالسياسات، وعلى وجه الخصوص الخارجية، مما جعلهم حريصين على تنظيم دورة مكثفة لها في الشؤون العالمية، يشرف عليها "راندي شيونمان" المعروف بأنه من غلاة المحافظين الجدد. ولاشك أن الجهود التي بذلها مدربوها في تلك الدورة يمكن تلمس نتائجها في الإجابات التي قدمتها في ثلاث مقابلات رئيسية. وتلك الإجابات، وكذلك مجموعة الخطب القصيرة المعدة سلفاً التي ألقتها في المناظرة تحتاج إلى فحص دقيق. ونظراً إلى أنها لا تمتلك معرفة بالشؤون الخارجية - مطورة بشكل مستقل، وقائمة على الخبرة والتجارب العملية- يمكن من خلالها فرز كم "المعلومات التي تلقتها في تلك الدورة" فإن الطريقة التي تعبر بها عما تعلمته، تكشف عن رؤية محافظة جديدة، وفجة، وغير مصفاة. وهي خبرة قد تكون ساذجة وشديدة التبسيط، أيضاً، ولكنها على كل حال شديدة الوضوح. ويستشف من خلال تلك الخطب والمقابلات أن "بالين" تتبنى رؤية إطلاقية و"مانوية" حيث تنظر إلى العالم من منظور ثنائية الخير والشر، ونحن وهُم، ودورنا ودورهم، وهزيمة الشر وانتصار الخير، وغير ذلك من آراء مثل كون التسويات في مجال السياسات الخارجية أمرا غير قابل للتفكير فيه، وأنه يجب رفض الطرق التقليدية في الدبلوماسية باعتبارها علامة من علامات الضعف والاستسلام.. وأن الدبلوماسية في العالم الذي نعيش فيه تعني العمل مع من يتفقون معنا، ولا تعني تجسير الفجوات مع أولئك الذين يختلفون معنا. وهذه روئ بسيطة وواضحة ولكنها أيضاً خطيرة لأنها هي الرؤى نفسها تقريباً التي اعتنقتها الإدارة الحالية وخصوصاً في فترة ولايتها الأولى. وعلى رغم الآثار الكارثية التي أسفرت عنها فإن من الواضح أنها متجذرة في موقف المرشحة "الجمهورية" لمنصب نائب الرئيس ومستشاريها. إن هذا هو السبب الذي يدعوني للقول إنه من الأهمية بمكان أن نستمع إلى ما تقوله بالين -ولا نهتم كثيراً بالطريقة السيئة التي تقوله بها- لأن هذا هو المهم. وما قالته حتى الآن لا يدعو للسخرية منها، وإنما يجب أن يدعو للخوف في الحقيقة.