منذ أيام، دعا وزراء خارجية أميركيون سابقون الإدارة الأميركية الحالية التي تقترب ولايتها من الانتهاء -دون أسف عليها- إلى التفاوض مع إيران، رغم تصريحات رئيسها ودعواته المتكررة إلى إزالة اسرائيل واستعداد بلاده لمهاجمة القوات الأميركية في الخليج وغيرها من المناطق. وارن كريستوفر قال: "إن الخيارات العسكرية للتعامل مع إيران مستبعدة جداً، ويجب أن نقول ذلك للإسرائيليين"! جيمس بيكر دعا إلى "ضرورة تحسين العلاقات بين أميركا وسوريا، طالما أن هناك احتمالاً للتوصل إلى اتفاقية مع إسرائيل"! وقال: "من السخافة القول إننا لن نتحدث مع السوريين". هنري كيسنجر دعا إلى "التفاوض مع إيران على أن توضح الولايات المتحدة أهدافها منذ البداية، ويجب أن يشمل ذلك شرق أوسط مستقراً"، مؤكداً "ضرورة أن توقف إيران تزويد الميليشيات بالسلاح"! مادلين أولبرايت قالت: "لا بد من التفاوض مع الدول التي لديك مشاكل معها. وبالتالي يجب أن يتم التفاوض مع إيران وعلى مستوى وزراء الخارجية". وأضافت: "إن المزيد من الانتقادات التي نوجهها إلى أحمدي نجاد تزيده قوة داخل المجتمع الإيراني". طبعاً لم تكن هذه التصريحات الأولى التي تنتقد الإدارة الأميركية وسياساتها في العالم. فقد استقال معظم أركان هذه الإدارة من مواقعهم السياسية أو الدبلوماسية أو العسكرية أو الأمنية أو الاستشارية، وبعضهم وجه انتقادات لاذعة للرئيس بوش ولبعض المسؤولين حوله، والبعض الآخر كشف معلومات مذهلة عن كيفية اتخاذ القرارات المتهورة والأخطاء والأخطار التي نجمت عن ذلك، في كتب لاقت رواجاً كبيراً في أوساط الأميركيين. وليست هذه أيضاً التصريحات التي ستؤثر على مستقبل حزب الإدارة الحالية على أبواب الانتخابات الرئاسية، لاسيما وأنها تأتي قبل نهاية الولاية والتحضير للانتخابات. لكنها تصريحات تؤكد ما نشر وما قيل، وما كتب منذ سنوات عن النتائج الكارثية المتوقعة لسياسة الإدارة الحالية، التي يمكن القول إنها لم تسئ فقط لنفسها وشعبها وبلدها وصورتها في العالم، بل هي تتحمل مسؤولية الكوارث، التي حلت بشعوب وأمم على مستويات مختلفة بيئية وأمنية وسياسية واقتصادية ومالية، وما نتج عن ذلك من حروب وتوترات وأسس لحروب وتوترات أخرى مفتوحة وللأسف! أين كان هؤلاء المسؤولون الأميركيون؟ الوزراء والمستشارون والفاعلون في مراكز القرار؟ ماذا فعلوا؟ لماذا لم يلفتوا النظر؟ ومن لفت النظر ولم ير شيئاً يتغير، فلماذا استمر في موقعه ودوره وأحياناً في دفاعه عن الإدارة ورموزها؟ وماذا فعل الذين كلفوا على مراحل مختلفة بتحسين صورة أميركا في العالم وانفقوا المليارات من الدولارات، واستمرت هذه الصورة مشوهة وصدقية الإدارة الأميركية ساقطة؟ من المسؤول عن الأزمة المالية الأخيرة ؟ هل يمكن الاطمئنان إلى أن ضخ الأموال بمئات المليارات، قد أوقف الأزمة ومفاعيلها وسيضمن استقرار أسواق المال؟ منذ أشهر تكرر مشهد التقلبات الأخيرة في بعض أسواق الخليج المالية، وتركت هذه التقلبات والخضات نتائج سلبية على مستوى مدخرات مواطنين متوسطي الحال ذهبوا إلى البورصات واللعب بها، وكأن الخيرات سترتد عليهم، فإذا بكوارث تقع. دعمت القيادات المركزية الأسواق بمليارات لتعويض الناس. كان بعض الأميركيين يشمت. يضحك. يستهزئ بالعرب. "إنهم غير جديرين بالتعاطي مع هذه اللعبة". "غير قادرين على معرفة أسرارها وعواملها". "مساكين" "أخذنا مالهم". هكذا كان يقول بعض كبار السياسيين ممثلي الشركات الأميركية الصناعية والمالية الكبرى في العالم. اليوم، ماذا حل بهؤلاء؟ هل العرب هم المسؤولون عن الانهيار المالي؟ هل قلة الخبرة العربية أو "المساكين العرب" هم المسؤولون عن ذلك؟ إنه الجشع الأميركي، وفكر الغزو الأميركي، الغزو الأمني والسياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي والعلمي والمالي لعقول وجيوب وثروات وبلاد الناس أينما كان.... هذه هي الحقيقة الجارحة للأميركيين والمقلقة لنا، لأن ما يجري هناك له انعكاساته هنا، عندنا وعلينا. فهل من مجال لوقفة؟ لاستراحة العقل؟ والتفكير بهدوء والاستفادة من التجارب؟ لقد نشرت نتائج استطلاعات رأي جديدة في أميركا، أشارت إلى قلق الأميركيين على مكانة بلادهم وقدراتها على مواجهة التحديات والحروب المفتوحة. وأيد كثيرون من المستطلعين التحدث إلى كوبا وإيران "وحزب الله"، والاستطلاعات أجريت قبل الأزمة المالية الكبرى التي عصفت بالمصارف والشركات الأميركية المالية العملاقة. والنتائج هذه ليست بتصرف الإدارة الحالية لتحسين شيء. فهي تلملم أوراقها لتغادر، لكنها باسم الرئيس الأميركي المقبل وفريق عمله ومن يقف وراءه. فهل يمكن ترقب تغيير شيء ما؟ شخصياً لست متفائلاً. ولذلك لا بد من الاستعداد للتعاطي مع أسوأ الاحتمالات، أي الاستمرار بالذهنية والأساليب ذاتها، أو بالذهنية ذاتها مع تغير في الأسلوب ستكون النتيجة واحدة. وإذا كان تغيير وهذا ما أتمناه، فنكون على الأقل في فلسطين ولبنان والعراق والعالم العربي عموماً، قد وفرنا الحصانات والحمايات المطلوبة لمواجهة كل الاستحقاقات والتحديات. إنها دعوة لاستراحة عقلنا أيضاً والتفكير بهدوء....