ظهر مفهوم الأمن العالمي بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها؛ حيث أحدث سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، وبالتالي تلاشي التهديد الذي كان يطرحه هذا الأخير بالنسبة للعالم الغربي، تحولا على صعيد مفهومي الأمن والدفاع اللذين كانا موجودين في عالم ثنائي القطبية. وهكذا، ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، زال التهديد العسكري المحض - تهديد بوقوع اعتداء كبير على منطقة معينة من العالم- غير أنه بموازاة ذلك، ظهر عدد كبير من التحديات الأمنية التي لها علاقة بانعدام استقرار النظام الدولي وتقلبه، وهي تحديات فرضت نفسها بقوة. كان ثمة وعي بأنه لا يمكن اختزال الأمن في المسائل العسكرية فقط، وبأنه لا بد من إعادة النظر في نطاق مفهوم الأمن بحيث يتم توسيعه وتعديله في آن واحد. ولهذه الغاية، بذل مثقفون ومسؤولون حكوميون ومنظمات دولية مثل اليونيسكو، جهوداً كبيرة وحثيثة من أجل تطوير مفهوم عالمي للأمن. وكان الهدف المنشود هو الكف عن حصر المفهوم في البعد العسكري فقط، وإضافة عناصر أخرى مثل الأمن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي إليه، وذلك من خلال الأخذ في عين الاعتبار تداعيات العولمة، والتفاوت الاقتصادي بين الشمال والجنوب، ومحاربة الأمراض والأوبئة، وحماية المناخ، كل ذلك في إطار تعريف عالمي جديد للأمن. كان مفهوم الأمن الإنساني يعلل ذلك حيث لم تعد المسائل الأمنية تقتصر على أمن الدول، وإنما باتت تشمل أمن الأفراد أيضاً. وقد تم هذا التحول انطلاقاً من الملاحظة المتمثلة في أنه إذا كان أمن الدول قد ازداد وتحسن منذ نهاية الحرب الباردة، لأن عدد الحروب التي تندلع بين الدول قد قل وتراجع، فإن الحروب بين سكان العالم تدهورت وازدادت سوءاً بالمقابل؛ حيث تضاعف عدد الحروب الأهلية التي يمكن أن تتطور إلى جرائم إبادة جماعية – مثلما حدث في رواندا بين الهوتو والتوتسي على سبيل المثال؛ كما أن التداعيات الثانوية السلبية لظاهرة العولمة (مثل انتشار الأمراض، وتدهور البيئة) تركت تأثيرات مباشرة أكثر على مصير السكان مقارنة بالحروب التقليدية. وبعبارة أخرى، كان الهدف الرئيسي من وراء هذا التحول هو جعل "الإنساني" في صميم الانشغالات، وليس الأراضي أو الحكومات، مثلما كان الحال في السابق. وهكذا، تطور مفهوم الأمن العالمي، وأصبح يعني القدرة على تأمين مستوى كاف من الوقاية والحماية ضد الأخطار والتهديدات، بجميع أنواعها وبجميع تأثيراتها ومهما يكن مصدرها، لفائدة أفراد مجموعة معينة، في ظروف تعطي الأولوية لتنمية وتطور الحياة والأنشطة الجماعية والفردية بشكل مستديم، وهو ما شكل تقدما هاما على الصعيد الفلسفي، مثلما كان تقدماً مهماً بخصوص الانشغالات بمصير السكان والأهالي. بيد أن مفهوم الأمن العالمي يمر اليوم للأسف بمرحلة مسخ وتشويه ذلك أنه إذا كنا قد غادرنا النطاق العسكري من أجل توسيع المفهوم بناء على رؤية أوسع وأكبر للأمن، فإننا اليوم بصدد عسكرة المشاكل العالمية؛ إذ يمكن القول في هذا الصدد إنه منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي استهدفت الولايات المتحدة، جرى اختطاف الأجندة الأمنية العالمية من قبل الحرب على الإرهاب والنزاعات المرتبطة بها وأصبحت رهينة لديها. غير أنه بالمقابل حدثت بعض الأمور الإيجابية التي لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها، حيث نلاحظ أن ثمة اعترافاً اليوم بأن التحديات العالمية التي تواجه البشرية (من قبيل حماية البيئة، والصحة العالمية، والتنافس على الموارد، والاندماج أو التهميش، وظاهرة الهجرة) تشكل رهانات كبرى بالنسبة لمستقبل البشرية. ولكن مع ذلك، لا بد، في رأيي، من إعادة النظر في الطريقة التي يراد بها في كثير من الأحيان التعامل مع هذه الرهانات؛ حيث تُقترح للأسف علاجات عسكرية للتعاطي مع هذه التحديات الأساسية. وعليه، فيمكن القول إننا انتقلنا، على ما يبدو، من ظاهرة عولمة المسائل الأمنية (وهو ما شكل تقدماَ) إلى اتجاه جديد اليوم نحو عسكرة المشاكل العالمية (وهو ما يشكل تراجعاَ). ذلك أنه إذا كانت تأثيرات انعدام الأمن يمكن أن تشكل موضوع إجماع، فإن اللافت هو أنه لم يعد هناك تفكير في الأسباب، إذ يلاحَظ أن هناك في كثير من الأحيان رغبةً في تقديم إجابة أمنية على مشاكل هي في الأصل سياسية. لقد باتت الحرب على الإرهاب تمثل نوعاً جديداً من التابوهات يمنع كل شكل من أشكال التفكير والتأمل على المدى البعيد. أما مكمن الخطر، فيتمثل في أن ذلك يقدم كل الأشياء ويصورها على أنها خطر وتهديد، وذلك من أجل التأثير على الناس وحملهم على قبول الأجوبة الأمنية، ولا شيء غير الأمنية. وعليه، يلاحَظ أن هناك حالياً تعقد للأوضاع تقابله بساطة الحلول. وتلك في الواقع هي أفضل وسيلة لترك المرض على حاله وعدم علاجه، بل تعقيده ومفاقمته، وهو ما يفضي بنا إلى ملاحظة أن ثمة تدهوراً جديداً بخصوص الوضع الأمني، يتطلب علاجاً عسكرياً. وبالتالي، فالأمر يتعلق بحلقة مفرغة يتعين كسرها في أقرب وقت ممكن!