في العام 2010، ستستغل جنوب أفريقيا فعاليات بطولة كأس العالم لكرة القدم التي ستقام على أرضها في إبراز وعرض نفسها عالمياً، كما فعلت الصين في دورة بكين الأولمبية التي انتهت في أغسطس الماضي. من المتوقع حضور ما لا يقل عن 500 ألف زائر من مختلف أنحاء العالم، بالإضافة بالطبع إلى كتائب من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء والمحطات الفضائية، الذين سيتدفقون على جنوب أفريقيا خلال الستة أسابيع التي ستستغرقها البطولة.وخلال تواجد كل أولئك هناك، سوف يتاح لهم رؤية الجمال الطبيعي الفائق لمدينة "كيب تاون"، وتلمس الطاقة النابضة لمدينة جوهانسبرج، والاستمتاع بالمناخ شبه الاستوائي المعبق بالعطور لمدينة "ديربان"، والذي قلما يستطيع المرء أن يجد له مثيلاً في أي بقعة أخرى في الدنيا. سيجد هؤلاء أيضاً مجتمعاً متكاملاً، متعدد الأعراق، تبعد صورته كل البعد عن تلك الأهوال التي شابتها إبان نظام الفصل العنصري. وهناك أيضاً احتمال كبير، أن يجدوا أمامهم أيضاً دولة ذات قيادة تحوطها الشكوك وتفتقر إلى اليقين بشأن توجهاتها المستقبلية. وإذا ما وجد هؤلاء الزائرون القيادة والوجهة المستقبلية على هذا النحو، فإن ذلك سيكون دون شك من ضمن تداعيات التغييرات التي حدثت في هذا البلد مؤخراً والتي أطاحت بـ"تابو مبيكي"، الزعيم المعتدل الذي قاد البلاد بعد الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا، وقدمت" جاكوب زوما" كرجل يحتمل أن يتولى منصب الرئيس عام 2009. مثله في ذلك مثل مانديلا ومبيكي، تعرض "زوما" إلى السجن من قبل حكومة الفصل العنصري، وإن كانت سنوات سجنه لم تصل إلى سنوات نيلسون مانديلا الذي قضى 27 عاماً وراء القضبان. وهو بالإضافة لتاريخه النضالي، رجل نقابي متحمس يشغل في الوقت الراهن منصب رئيس حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم، ويحظى بتأييد وكاريزما كبيرة لدى الجناح "اليساري" المتطرف في الحزب الذي يسيطر على الحكم فعلياً على الرغم من تحالفه مع الاتحادات النقابية ومع الحزب الشيوعي عديم الفعالية. وشخصية "زوما" تختلف اختلافاً كبيراً عن شخصية "مانديلا"، ونائبه الأمين "مبيكي"، الذي واصل نهج الاعتدال، الذي دشنه زعيمه. فهو رجل احتلت أنباء مغامراته الجنسية صدارة الصحف، كما اُتهم رسمياً بالفساد، وأن كانت المحكمة قد برأته مؤخراً. ولكن تلك التبرئة لم تستند على أسس جوهرية راسخة، وإنما كانت بسبب خطأ في الإجراءات، وهو ما يبقى احتمال توجيه تلك الاتهامات إليه مرة ثانية قائماً. وإذا ما حدث ذلك، وهو أمر محتمل فإن ذلك سوف يعقّد- ولكنه لن يحول تماماً- دون عملية صعوده إلى سدة الرئاسة العام المقبل- بعد أن نصب حزب المؤتمر نائب زعيمه "كجاليما موتلانتي" رئيساً مؤقتاً إلى أن يحين موعد انتخابات 2009. على رغم أن جنوب أفريقيا هي أكثر دول القارة تقدماً في الصناعة، وعلى رغم غناها الطبيعي في الذهب والماس، وظهور طبقة وسطى سوداء قوية نمت وازدهرت تحت حكم الزعماء السياسيين السود، فإن الغالبية العظمى من السود لا تزال تعيش في بيوت بدائية محرومة من الكهرباء والخدمات الأساسية، وتعاني من البطالة على رغم المعدلات العالية للنمو الاقتصادي في البلاد، والذي اقتصرت فوائده على قطاعات محدودة من السكان. وكانت النتيجة المحتمة لهذا الوضع غير المتوازن، هي موجه عاتية من الجريمة التي يقوم فيها الفقراء بسرقة السيارات والبيوت، وانتزاعها من مالكيها سواء كانوا من البيض أو السود. لقد كان من حسن حظي أنني تمكنت من إقامة علاقات وثيقة مع جنوب أفريقيا، ومع عدد من الشخصيات الجنوب أفريقية العظيمة لسنوات طويلة. فعندما كنت صبياً في بريطانيا خلال سني الحرب العالمية الثانية، كان والدي معجبا أشد الإعجاب بـ" جان كريستيان سماتس" الزعيم الذي جعل جنوب أفريقيا تدخل الحرب إلى جانب الحلفاء على الرغم من اعتراضات الكثير من زملائه. وبعد الحرب، وعندما كنت لا أزال في سنوات المراهقة، سافرت إلى جنوب أفريقيا حيث تلقيت تدريبي الأول على الصحافة على يد "اليكس هاموند" الذي كان رئيسا لتحرير أول جريدة أعمل بها. كان "هاموند" جنوب أفريقي أبيض، يعشق الصحافة منذ نعومة أظفاره، وينظر للانضمام إليها مثلما ينظر للانضمام للكنيسة. وبعد ذلك بسنوات، وبعد أن رسّخت أقدامي في مجال العمل الصحافي، كنت كثيراً ما أتنزه برفقه "آلان باتون" المؤلف المشهور لرواية " ابكي يا يلادي الحبيبة" في حديقته الغناء الملئى بالأزهار، واستمتع بحديثه عندما كان يحكي لي عن أماله بشأن جنوب أفريقيا، الذي ربما لن يعيش كي يراها. وعندما تركت جنوب أفريقيا بعد أن انتقلت إلى عمل آخر، ذهبت لتوديع "البرت لوثولي"، زعيم حزب المؤتمر الأفريقي في بيته في منطقة "زولو لاند"، والذي كان رجلاً يتميز بالعاطفة الصادقة، والسلام الداخلي على الرغم من الإهانات التي كان يتعرض لها على أيدي سلطات جنوب أفريقيا البيضاء. سألته حينئذ كيف ستمضي الأمور في البلاد؟. فرد على بنبرة حزينة قائلاً إنه على الرغم من أنه يسعى إلى المصالحة مع النظام الأبيض، فإنه لم يعد قادراً على منع زملائه من السود من ممارسة العنف ضد هذا النظام. كان هناك أيضاً "ستنالي أويس" أبرز صحافيي البلاد المتخصصين في الشؤون السياسية، الذي كان كثيراً ما ينتقد التجاوزات التي يرتكبها زملائه من الأفارقة، والذي كان يتمتع بحس دعابة عالٍ، وكنت أتمتع بالحديث معه عبر الهاتف إلى أن التقطت أجهزة الأمن محادثاتنا، ولم ينقذني من السجن سوى المعلومات المُضلِلة بصورة مضحكة التي قدمها للسلطات والتي أنقذتني من السجن. عرفت أيضاً "أجري كلاستي" رئيس تحرير أكبر صحيفة للسود في البلاد، الذي كان يحلم بأن جنوب أفريقيا ستتحول في المستقبل إلى قاطرة صناعية واقتصادية لدول القارة بأسرها. لقد قطعت جنوب أفريقيا شوطاً طويلًا على طريق الوفاق بين الأجناس، التي تعيش فيها وحققت الكثير من الأمال، التي كانت تلك الكوكبة من الرجال تطمح إليها. لذلك فإنها ستكون مأساة حقيقية، إذا ماجعلنا القادة الجدد نبكي مرة أخرى على هذا البلد الحبيب. جون هيوز مساعد وزير الخارجية الأميركية في إدارة الرئيس ريجان ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"