تمرّ الولايات المتحدة وأسواقها المالية بأزمة عميقة هذه الأيام، وتمتد هذه الأزمة لتصل إلى الأسواق المالية في أوروبا. ولا تقتصر هذه الأزمة على البنوك، بل بدأت تتعداها إلى المصانع الكبرى مثل مصانع السيارات، التي تباطأت نسب المبيعات فيها مما حدا بأصحاب هذه المصانع إلى تسريح عدد كبير من موظفيها، وطلب دعم حكومي لكبريات الشركات العاملة فيها. ويذهب البعض إلى أن مثل هذه الأزمات التي بدأت في أسواق الخدمات المالية، وظهرت بعض آثارها على الأسواق الصناعية يمكن أن تمتد بشكل أكبر إلى قطاعات اقتصادية أخرى. هذه الأزمة التي ظهرت قبل سنة ونصف سنة في أسواق العقار، يُنظر إليها اليوم على أنها أزمة تضخم أو أزمة ائتمانية، ولكنها في الواقع ربما نتجت كذلك من تضخم الإنفاق الحكومي في الولايات المتحدة، ووجود سيولة مالية كبيرة في فترة من الفترات لدى هذه البنوك مما دفع بها إلى التمادي في الإقراض، خاصة لأصحاب المنازل الجديدة ومشتريها، مما دفع بأسواق العقارات إلى مستويات غير حقيقية لا تعكس القيمة الفعلية لهذه العقارات. ومثل هذه الفقاعة انتفخت إلى حد كبير، وبعد تنسيم تلك الفقاعة، بدأت تؤثر على الفقاعات الأخرى. ولما كان الاقتصاد عبارة عن بالونات مترابطة، فإن تحسن أحد هذه البالونات قد يؤدي إلى تحسن البالونات الأخرى والعكس بالعكس. ولو عُدنا إلى التاريخ الاقتصادي فسنجد أن معظم الأزمات الاقتصادية كانت نتيجة عاملين اثنين، أحدهما تدهور الإنتاج الزراعي، وحدوث بعض المجاعات أو تدهور الإنتاج الصناعي نتيجة لزيادة كمية الإنتاج عما هو مطلوب في الأسواق. وحين يتراجع الطلب وتبور السلع، يضطر أصحاب المصانع إلى تسريح عدد من الموظفين، حتى تصل قيمة تلك المنتجات الصناعية إلى أثمان رخيصة، مما يدفع المستهلكين مرة أخرى لشراء هذه السلع، وبالتالي تعود عجلة الطلب إلى الدوران مرة أخرى، وتعود المصانع لتدور من جديد. هذا ما تعلمناه في النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد، وحاولنا أن ننساه لفترة طويلة، ولكننا نعود اليوم لنراه أمامنا في صورة أزمة هيكلية مقبلة للننظام الرأسمالي العالمي. هل ينجح الساسة في إيقاف هذه الأزمة الهيكلية، أم يفشلون؟ فمن ناحية لا يمكن للحكومات أن تقف مكتوفة الأيدي أمام التدهور الاقتصادي المحيق بها، وتترك للرأسمالية البحتة أن تعصف بوظائف الناس ومدخراتهم، ولو لفترة معينة. ومن ناحية ثانية، فإن إنقاذ القطاع البنكي يتطلب أموالاً هائلة، كما هي الحال مع خطة الإنقاذ التي وضعتها إدارة بوش، وتكلف الحكومة سبعمائة مليار دولار، وهو ما يساوي ما صرفته في حرب العراق خلال خمس سنوات. وأن تدفع هذه الأموال إلى بنوك ضخمة متعثرة، لتنقذ هذه البنوك من المصير المحتوم. وتمثل خطة الإنقاذ هذه التي رفضها الكونجرس أول مرة، ما يساوي ألفين وسبعمائة دولار يجب على كل دافع للضرائب أن يدفعها كي ينقذ هذه البنوك من آثار قرارات اقتصادية خاطئة قامت بها إداراتها، في الوقت الذي يحصل فيه مديرو هذه البنوك على مرتبات سنوية تصل ما بين 50- 70 مليون دولار، على شكل مرتبات ومكافآت ننظير إدارتهم لهذه الشركات الضخمة. وغني عن البيان أنه لا يمكن توجيه اللوم للناخب الأميركي البسيط الذي سيدفع هذا المبلغ لإنقاذ البنوك الكبرى، في الوقت الذي يفقد فيه ملكية منزله لصالح هذه البنوك. كما لا يمكن لوم السياسيين من أجل العمل وبسرعة لإنقاذ القطاع المصرفي، خشية انتشار النار في الهشيم. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لهؤلاء السياسيين تقديم ضمانات صارمة بنجاح خطة الإنقاذ هذه، ولذلك فإن هؤلاء الساسة يحاولون حصر مشكلة هيكلية تنشأ كل عشرين أو ثلاثين عاماً، في شكل أزمة صغيرة متصلة بقطاع اقتصادي واحد. والسؤال الذي لابد من مواجهته: في أي مكان يقف السياسي في النظام الديمقراطي؟ هل يقف في صف المواطن البسيط الذي يدعم الشركات المالية والمصارف والمصانع الكبرى، في الوقت نفسه الذي يعاني فيه هذا المواطن من أزمة مالية. أم يقف السياسي في صف الشركات الكبرى ويحاول إقناع الموظف البسيط بأهمية التضحية من أجل المصلحة الاقتصادية الأسمى للوطن وللأمة بأشملها. الحال أن مثل هذا التساؤل تصعب الإجابة عنه، فحين يزدهر الاقتصاد تزدهر مداخيل أعداد كبيرة من الناس، وحين تتراجع عجلة الاقتصاد يحاول كل شخص تحميل الآخرين تبعة هذا التراجع، سواء من ناحية معنوية أو من ناحية ضريبية. ولقد اختار معظم الساسة خاصة الرئيس الأميركي ومرشحي الرئاسة سواء "الديمقراطي" أو "الجمهوري" الخيار الثاني وراحوا يجوبون البلاد ويظهرون في وسائل الإعلام، متّحدين، لإيصال رسالة واحدة إلى المواطن البسيط. تحمّلْ هذه الضريبة الإضافية، وإلا فأنت الخاسر ومن سيتحمل انهيار النظام الاقتصادي الرأسمالي ليس في بلدك فحسب، ولكن في العالم أجمع. ومثل هذه الرسالة القوية ستجبر الناخبين وممثليهم في الكونجرس على القبول بخطّة معدّلة لإنقاذ البنوك من الانهيار. ولكن هل ستوقف هذه الأموال تدهور قطاعات أخرى، أم أن الأزمة الهيكلية ستعصف بقطاعات أخرى، وباقتصادات الدول الأخرى كذلك؟ هذا ما سترينا إياه الأيام القادمة.