كل شيء يتغير. فالتغير سُنة الكون. وقد تطور الوحي في عدة مراحل من اليهودية إلى المسيحية حتى اكتمل في الإسلام. وتطور في آخر مرحلة فيما يعرف بالناسخ والمنسوخ، وإعادة صياغة الأحكام طبقاً لتغير الواقع وقدرات الإنسان وطاقته. والإجماع والاجتهاد مصدران للتشريع بعد الكتاب والسُّنة لبيان أهمية التغير. فالإجماع متغير من عصر إلى عصر. والاجتهاد لمواجهة التغير إلى يوم الدين. بل إن العلم الإلهي نفسه لا يغفل التغير. وهو ما أكدته الكرّامية إحدى الفرق الإسلامية القديمة، معطية الأولوية للتغير على الثبات، ولكنها لم تبق طويلًا. واستقر الأمر لباقي الفرق، وفي مقدمتها الأشعرية التي أعطت الأولوية للثبات على التغير. ومنذ انقلاب 15 مايو 1971 والأمور لم تتغير، والسياسات النقيضة ما زالت هي هي، بل تزيد جرأة وإصراراً علـى رغم بيان آثارها السيئة، وتغير الواقع والظروف. فالانفتاح ما زال قائماً على رغم آثاره المدمرة على الاختيارات الاجتماعية السابقة، وعدم قدرة الطبقات الفقيرة على شراء السلع المستوردة الجديدة بالدخول والمرتبات المحلية، واستفادة الطبقات العليا من الانفتاح، رجال المال والأعمال، وشركات الاستثمار. وزاد فقر الطبقات الدنيا. وما كان لها من قطاع عام يسد حاجاتها الأساسية من غذاء وإسكان وتعليم وصحة تمت خصخصته. وبدأ الرفع التدريجي لدعم المواد الغذائية. ولم يبق إلا الخبز بالطوابير الطويلة والمعاناة اليومية. وخصخصت البنوك. وأصبح الاستثمار الأجنبي يأخذ من خيرات البلاد ورؤوس أموالها الوطنية أكثر مما يعطي دون رقابة من البنك المركزي. وساهم نواب القروض في ذلك وهم الذين جاءوا لتمثيل مصالح الشعب. وبدأ احتكار الحديد والإسمنت والتلاعب بالأسعار. دخل رجال الأعمال وأصحاب الثروات الحزب الحاكم فاجتمعت الثروة والسلطة. وعم الفساد الصحافة وكبار الإعلاميين وبعض رؤساء تحرير الصحف، وأصبحت ثرواتهم بالملايين. وتمت المصاهرة بينهم كما حدث بين أبناء شركات توظيف الأموال حتى تتراكم رؤوس الأموال، وتقوى العائلات، وينشأ الإقطاع الجديد بعد أن قضى على الإقطاع القديم في أول الثورة. وارتفعت أسعار العقارات سواء للشراء أو للإيجار. وتذكر الناس لجان تقدير الإيجارات في الجمهورية الأولى، وكيف كانت تحدد الإيجار لصالح الساكن وليس لصالح المالك. وبلغت أسعار الشقق الملايين، وفي المدن الجديدة عشرات الملايين. ولأول مرة يرى الناس "السيتي ستار" التي لا يستطيع الفقير أن يشرب فيها الماء لارتفاع أسعارها، ولا حتى الدخول لأنه يتوه فيها. وقد يدخل ولا يخرج. لم يتغير شيء بالنسبة للحزب الحاكم الذي يسيطر على معظم مقاعد البرلمان ورئاسة معظم لجانه على رغم وجود المعارضة الشرعية الغائبة تقريباً عن البرلمان والمعارضة اللاشرعية الحاضرة نسبياً في البرلمان، وعلى رغم استعمال جهاز الدولة ومؤسساتها لصالح حملات الأحزاب. لم يتغير شيء على رغم الحديث عن الديمقراطية وصحافة وأحزاب المعارضة على مدى عدة انتخابات. والإعلام المرئي في يد الدولة في حين يتغير إعلام كل العالم، وتنتشر القنوات الفضائية. وأصبح المواطن لا ينظر إلى قنواته الوطنية إلا في المسلسلات والأفلام والبرامج الدينية. يستقي أخباره من القنوات المستقلة. ولم تتغير السياسات الخارجية كما لم تتغير السياسات الداخلية. العلاقات مع أميركا ما زالت مستمرة على رغم مضارها على مصالح الدولة وتحالفاتها الإقليمية. والسلام مع إسرائيل منذ كامب ديفيد في 1978 ومعاهدة السلام في 1979 ما زال مستمراً علـى رغم غزو بيروت في 1982، وضرب المفاعل النووي العراقي في 1984، وقيام الانتفاضة الأولى في 1987، انتفاضة الحجارة وكسر عظام الأطفال، والثانية، انتفاضة الأقصى وتدنيس الحرم الشريف. وعلى رغم مقاومة شعب مصر للتطبيع إلا أن الدولة ما زالت في سلام معها. تكتفي في القضية الفلسطينية، بتدريب الشرطة الفلسطينية والتهدئة بين "حماس" و"فتح". ويُترك الفلسطينيون وحدهم تحت رحمة إسرائيل في القتل وتجريف الأراضي وهدم المنازل. ما زالت مصر خاضعة للأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وقوانين مكافحة الإرهاب أو قوانين الاشتباه أو قانون الحفاظ على السلام الاجتماعي التي تبيح الاعتقال ثم تجديده عدة مرات دون تهمة أو محاكمة. وما زالت السجون غير خالية من المعتقلين! وما زال الحديث عن التعذيب جارياً على رغم تقارير لجان حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية. لقد تغيرت سياسات الدول الكبرى والصغرى إلا سياسات مصر منذ ما يقرب من سبعة وثلاثين عاماً، هو عمر الجمهورية الثالثة. لقد تغير الاتحاد السوفييتي مرتين، مرة بقبول انهيار المنظومة الاشتراكية مع أوروبا الشرقية، واعترافه ببعض الأخطاء السابقة في الحريات العامة والانغلاق والتأخر، كما عبر عن ذلك جورباتشوف في "البروسترويكا" و"الجلاسنوت". ومرة ثانية عندما بدأ يسترد أنفاسه ويقف في مواجهة القطب الواحد في جورجيا وأوكرانيا وعلى ضفاف البحر الأسود لمنع حصار الغرب له وللصين في خاصرته الجنوبية. وتغيرت الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر. وقامت بغزو أفغانستان والعراق بدعوى محاربة الإرهاب والقضاء على أسلحة الدمار الشامل. وتغيرت فرنسا وعادت إلى مجال تأثيرها في سوريا ولبنان. وتغيرت إيطاليا من اليمين إلى اليسار إلى يسار الوسط إلى اليمين مرة ثانية. وتغيرت إسبانيا من اليمين في حكم أِثنار إلى اليسار في حكم ثاباتيرو بعد حوادث قطارات مدريد. بل لقد تغيرت باكستان واستقال رئيسها بناء على الضغوط الشعبية. وتغيرت تركيا من دولة تابعة للغرب وعضو في منظمة حلف شمال الأطلسي إلى دولة إمبراطورية سابقة ترعى مصالحها العربية والآسيوية. تتوسط بين سوريا وإسرائيل، وبين إيران والغرب، وبين روسيا وأميركا في التوتر الأخير. وتغيرت إيران أكثر من مرة، من "تصدير الثورة" أيام الخميني إلى التقارب مع الغرب عند رفسنجاني إلى الحوار مع الغرب عند خاتمي إلى تحدي المجتمع الدولي نجاد. بل لقد تغيرت بعض السياسات العربية في لبنان من الصدام بين الموالاة والمعارضة إلى الحوار وإنشاء حكومة وحدة وطنية وجيش وطني ودولة مقاومة. وتغير من سياسة إلى سياسة أخرى مختلفة. وتغير اليمن من المواجهة مع المعارضة إلى الحوار معها. وتغير السودان وقبل الحوار مع الجنوب ومع الغرب في كردفان ودارفور. وتغير الصومال أكثر من مرة. لا توجد سياسة لا تتغير منذ سبعة وثلاثين عاماً على رغم تغير الظروف وموازين القوى الدولية إلا الأنظمة غير المرنة. فهي إن تغيرت انهارت بفعل القوى الديمقراطية. وإن لم تتغير انهارت بفعل الزمن وجدل التاريخ.