عندما صعد ضابط "كي جي بي" السابق فلاديمير بوتين، إلى سدة السلطة في الكرملين نهاية عقد التسعينات، وجد نفسه وجهاً لوجه أمام مهمة عسيرة للغاية، إذ كان عليه أن يتعامل مع الإرث الثقيل الذي خلفته أجندة بوريس يلتسين السياسية الكارثية والذي تمثل في: انتشار الفساد في كافة مفاصل الدولة الروسية، وتنامي مظاهر عدم العدالة الصارخة في المجتمع، وتوحش المصالح المتمترسة في مواقعها بقوة. يقول "برونو سيرجي" -المحلل السياسي ومؤلف كتاب "كرملين بوتين: كيف يسيء الغرب تفسير روسيا؟"، والذي نعرضه في هذه المساحة- إن بوتين قرر أن المهمة الأولى التي يجب أن يقوم بها لمواجهة هذه التركة الثقيلة هي أن يعمل على إعادة الاستقرار إلى المشهد السياسي المضطرب، الذي ساد روسيا بعد السقوط الكارثي للاتحاد السوفييتي، وأن يضع حداً للفوضى العارمة وعدم الاستقرار اللذين ساداها، وأن يوقف الانهيار الاجتماعي الذي حدث فيها عندما وجد عشرات الملايين من الروس أنفسهم في مواجهة غائلة الفقر، فيما تنامى نفوذ عصابات المافيا الروسية، وظهرت طبقة جديدة من الأثرياء الجدد استفادت من الفوضى التي أعقبت سقوط الدولة السابقة في تكوين ثروات طائلة. تلك التطورات أدت في حينها إلى انتشار السخط وتفاقمه بين المواطنين الروس العاديين... واتجه سخط هؤلاء المواطنين إلى مؤسسة الرئاسة باعتبارها المسؤولة أولًا وأخيراً عن كافة الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهونها. لم يكن ذلك يغيب عن إدراك بوتين الذي باشر منذ اللحظة الأولى لتوليه الحكم، رسم أجندة اشتملت بالإضافة إلى إعادة الاستقرار للمشهد السياسي، محاربة الفساد الذي كان متفشياً بصورة تهدد كيان الدولة ذاته. قرر بوتين ألا يخفي شيئاً عن شعبه فلم يتردد في الكشف بنفسه عن كافة السلبيات ومظاهر الفساد والخلل في البلاد، وتماهى مع المواطن الروسي في التأفف من هذا الفساد، ودعاه إلى الوقوف بجانبه ومساعدته على التخلص من آثار التركة الثقيلة. وأتت هذه السياسة أكلها... فمنذ اللحظة الأولى، أدرك الروس أنهم أمام رجل جاد يختلف عن سلفه، وأنه يسعى فعلاً إلى إعادة بعث أمجاد روسيا، فوقفوا معه وساندوه بكل إخلاص. كان هذا موقف الشعب الروسي في معظمه من بوتين... بيد أن الأمر لم يخلُ من فئات نظرت إليه بتوجس، كانت على رأسها بالطبع تلك التي استفادت من ظروف ما بعد انهيار الدولة السابقة، وكانت ترغب في استمرارها. أدركت تلك الفئات منذ الوهلة الأولى أنها أمام رجل مختلف وتوجست منه خيفة. ولم يكن هذا موقفها وحدها لكنه كان أيضاً موقف الكثير من الخبراء الأجانب المتخصصين في الدراسات الروسية الذين لم يتوقعوا النجاح للرجل، وسارعوا إلى التنبؤ بأنه سيكون نمطاً سلطوياً من الحكام، إن لم يكن لشيء فعلى الأقل لخلفيته كرجل ذي عقلية أمنية تشكلت ذهنيته من خلال العمل في جهاز الاستخبارات السابق. وذهب هؤلاء الخبراء إلى أن تأييد قطاعات عريضة من الشعب الروسي لبوتين وطاقمه لا يرجع إلى صواب السياسات التي يتبعها، وإنما إلى أن ذلك الشعب صاحب تاريخ طويل في التعايش مع الطغيان والاستبداد. وانتشرت هذه الرؤية لبوتين في الغرب، واعتمد عليها كثيرون في محاولة فهم ما يجري في روسيا. وكانت النتيجة أن ذلك الفهم جاء مشوهاً، حيث بنى الغرب تصورات خاطئة عن روسيا، واعتقد الكثيرون فيه أنها ستدخل فترة ممتدة من الركود والكساد والانغلاق السياسي، الذي لن يختلف كثيراً في خطوطه العامة عما كان سائداً في الاتحاد السوفييتي. هذا الفهم المغلوط لروسيا امتد حتى للجهات الثقافية، ومراكز البحوث والدراسات في الغرب، والتي بدت وكأنها غير مستعدة لتغيير هذه الصورة عن روسيا. ويرى المؤلف أن قادة الغرب بحاجة إلى معرفة كافة تفاصيل قصة صعود بوتين إلى السلطة، والطريقة التي كان يتم بها النظر إلى الرجل في ورسيا، كما أنهم بحاجة أيضاً للنظر إلى الواقع الصعب والظروف القاسية التي وجد بوتين نفسه مضطراً للعمل فيها، وإلى اتخاذ قراراته، وصياغة سياساته، وردود أفعاله في إطارها. في هذا الجزء من الكتاب يحاول المؤلف تجاوز الكليشيهات السائدة إلى المنطق الصلب لسنوات التسعينات، كما يطرح العديد من الأسئلة الجسورة حول تفكك الإمبراطورية السوفييتي السابقة، والظروف التي تكونت فيها الطبقة الأوليجاركية التي تمكنت من مراكمة ثروات خيالية على حساب الأغلبية الساحقة من الجماهير، وهو ما كان سبباً لكل ذلك الاضطراب الذي ساد المشهد السياسي الروسي، والذي بذل بوتين جهوداً كبيرة من أجل مواجهته، ومن أجل إعادة الاستقرار لروسيا، وإعادتها إلى أمجادها السابقة. ويؤكد الكاتب أن بوتين قد نجح في مهمته إلى حد كبير، وحقق نتائج إيجابية للغاية، لكنه يرى أيضاً أن عهده لم يخلُ من الأخطاء التكتيكية الفادحة، شأنه في ذلك شأن القادة العظام في مراحل التحول التاريخية الكبرى. سعيد كامل الكتاب: كرملين بوتين: كيف يسيء الغرب تفسير روسيا؟ المؤلف: برونو اس. سيرجي الناشر: كونتينيوم انترناشيونال بابليشينج تاريخ النشر: 2008