أجمل صفة في الإنسان أنه "إنسان" وبهذا يختلف عن كل المخلوقات وهو فوقها جميعاً بما فيها جنس الملائكة، وفيه سر الكرامة الأبدية وعليه تدور كافة الشرائع السماوية والقوانين البشرية التي يفترض أن تكون صفة "الإنسانية" لصيقة بها حتى تنال احترام الإنسان ذاته وترفع من شأنه وقدره على الوجود ومكوناته. حتى يكون هذا "الإنسان" إنساناً بحق ويتصبب جبينه عرق الإنسانية، فعليه أن يعيش كما هو بعيداً عن القيود التي تذيب روح الإنسان فيه، حتى لا يتحول إلى شبح إنسان يعيش حياة أبعد كثيراً من حياة الحيوان الذي تتحكم فيه قوانين الفطرة الأزلية لأنه لا علاقة له بالتكليف والتسامي. أجزاء من هذا الإنسان الحق يوجد مبعثراً في ثنايا العالم العربي والإسلامي، ويلاحظ ذلك في مداد كلماته وتلعثم لسانه إذا أراد التحدث عن الإنسان الآخر الذي يراه ويحياه شعوراً دون أن يلامس ذلك واقع حياته اليومي. الإنسان في هذين العالمين مفقود ولا يحتاج إلى جدران السجون والمعتقلات ليعلن عن فقده رسمياً، لأنه جزء من نبض واقعه المؤلم وفق المقاييس التي تنشرها وسائل العولمة المعاصرة في كافة أرجاء مسكن الإنسان أينما كان. كيف نميز بين الأناسي في هذا الكون الفسيح للإنسان الغربي وجزء لا بأس به من الشرق الآسيوي باستثناء العربي والإسلامي بطبيعة الحال ولسان المقال، نضرب مثلاً أبسط، مما تتصوره العقول في خطوط المشاة على الطرقات، فهي خطوط تحترم الإنسان أولاً وأخيراً قبل أن ترفع من سوط القانون عالياً، فقد ذكر أحد المارة من خلال استخدامه اليومي لهذه الخطوط الضرورية للحفاظ على حياة "الإنسان" المكرَّم من قبل الذات الإلهية في دولة إسلامية، بعد فترة طويلة من الوقوف الدائم بمحاذاة تلك الخطوط المحسوبة لي وعلي، لم تقف مركبة واحدة لإعطائي حق الأولوية في الحركة إلا سائق غربي أشار بيديه أولاً قبل الوصول إلى نقطة خطوط المشاة مشيراً عليه بالتحرك الآمن، وقد دهش منه واستنكر من آخرين عدم الاكتراث واللامبالاة بقيمة الإنسان في خطوط المشاة. ولو قسنا على هذا، قضايا أكبر من ذلك مما يدخل في جملة الحقوق الصارخة، لوجدنا المفارقات تملأ ما بين السطور التي يقرؤها الحصيف ببصيرته قبل بصره. ففي العالم العربي وكذلك الإسلامي كنوز من الموروثات التي تقذف بالإنسان إلى عنان السماء، ولكن إذا أراد أن يمارس حقه على الأرض، اصطدم بها ولم تسعفه قوانينها في حماية حقه أن يصبح "إنساناً" مجرداً من الرتوش والمجاملات التي تذهب من جمال إنسانيته الشيء الكثير، فيردد مع من ألَّف أغنية قديمة رداً على النظرية "الداروينية" في تطور الأنواع قائلاً: "في يوم ما سأصبح إنساناً". إنسان العالم الثالث بحاجة إلى أطنان من الأغطية الأخلاقية كي يلتحف بها من جور بعض القوانين والأعراف والعادات والتقاليد التي ربطت وقيدت بلبوس من الدين وهي من صنع أيدينا، وندفع اليوم ثمناً -اجتماعياً وثقافياً وفكرياً- باهظاً للتخلص من تبعاتها. والأمر الأهم هو وجود هذا "الإنسان" في ثنايا القوانين التي تدير المجتمعات لأنه بذلك يتحول إلى قانون من نص جامد إلى روح حية ومتحركة تلبي احتياجاته وإن كانت يسيرة، وهو ما يجرنا إلى أن نقول بمناسبة "الإنسان" بمعنى أن نجد "الإنسان" المفقود في كل قانون يتم سنه في المجتمع. فمتى استطاع إنساننا أن يعيش في مجتمعه بكل حاراته إنساناً طبيعياً، يستطيع أن يعلن انتصاره ويعيد ما فقده منذ قرون من إنسانية تبحث لها عن مستقر آمن.