رغم كثرة الكتب المنشورة في العالم والتي يتزايد عددها كل عام مع شدة العطش للمعرفة، إلا أن بعض هذه الكتب لا يصبح أكثر مبيعاً فقط، بل يترك أثراً كبيراً على قارئيه وفي مجالات متعددة لأعوام كثيرة. ويصبح هذا الكتاب من أمهات الكتب لكي يشكل رؤيتنا، أي لا تتأثر قضيته أو أقواله بمرور الزمن. والمكتبة العربية مليئة بأمثلة كثيرة على ما أقول. خذ مثلاً ثلاثية نجيب محفوظ، التي ذاعت شهرتها وأصبح «سي السيد» الصورة النمطية لرب الأسرة العربي المتسلط. واستقرت شهرة الثلاثية حتى قبل أن تتحول الى أفلام سينمائية وقبل أن يفوز محفوظ بجائزة "نوبل". لا شك أن أشعار محمود درويش أو نزار قباني دليل على هذا التأثير الذي يتركه بعض الكتاب، أحياء كانوا أم أمواتاً. خلافاً عن ماركس وكتاباته عن قدر الرأسمالية المحتوم، نشر قبل سنوات الكاتب الأميركي بول كيندي مجلده الضخم عن «ظهور وأفول القوى العظمى»، كان هذا الكتاب عرضاً ممتعاً وقوياً لتطور الإمبراطوريات المختلفة على مدى 500 عام. ويبدو أن كيندي قرأ تقريباً كل شيء عن الفترة بين 1500 2000. وكأن جدة البحث والتأليف لا تكفي، أو متعة الأسلوب السهل الممتنع قد لا تضمن ذيوع الكتاب، فإن كيندي كرس ما يقرب من 100 صفحة من صفحات كتبه الأخيرة لاستقراء قوانين التاريخ فيما يتعلق بالحاضر والمستقبل، وخاصة فيما يتعلق بسيطرة الولايات المتحدة على أحوال العالم. كان رأي كيندي أن قوانين استقرائه التاريخي تقول إن سيطرة الولايات المتحدة -كسابقاتها من الإمبراطوريات- تنتهي، وقام بمقارنة مفصلة مع ظهور وأفول الإمبراطورية التي سبقتها مباشرة، أي الإمبراطورية البريطانية. فما هو قانون نهاية الإمبراطورية؟ وما المؤشر على قرب حدوثه؟ باختصار شديد هو ما سماه كيندي "التمدد المفرط"، أي عندما تتوسع الإمبراطوريات أكثر بكثير من قدراتها وبالتالي تصاب بنزيف يؤدي بها في النهاية إلى الوهن والضعف، إن لم يكن الموت، كما حدث للاتحاد السوفييتي بتدخله في أفغانستان ومحاولته السيطرة على هذا البلد، لكن المقاومة هناك أجبرته على الانسحاب، ثم أصابه النزيف في مقتل، ولم يكن من الممكن إنقاذه. وبمجرد ظهور كتاب كيندي، أثار نقاشاً حاداً ولغطاً شديداً، ليس فقط بين المؤرخين وأساتذة العلاقات الدولية، لكن على صفحات الجرائد أيضاً. وتمت ترجمة الكتاب إلى أكثر من 25 لغة، وأصبح كيندي مثل النجوم تتم دعوته إلى أكبر المحافل الدولية، ومهما كانت تكاليف حضوره. لكن بعض المتخصصين اعترضوا على استقرائه للتاريخ وقوانينه فيما يتعلق بالولايات المتحدة ونهاية إمبراطوريتها، وأوضحوا مصادر القوة الأميركية التي هُزمت في فيتنام، لكنها رغم ذلك استعادت عافيتها لتستمر في سيطرتها على العالم. كان الجدال عنيفاً، ورغم أن كيندي قبل عرضاً مغرياً للانتقال إلى جامعة "ييل" الأميركية الأشهر، فإن خصوم نظريته لم يتوقفوا. ثم جاء حدث مهم في بداية التسعينيات وهو نهاية الحرب الباردة وسقوط الكتلة الشرقية والانتصار المدوي للولايات المتحدة والنمط الأميركي، أو ما سماه فوكوياما "نهاية التاريخ"، حيث توقف الجدال... إلى حين. لكن ماذا عن أحداث هذا الأسبوع وأزمته المالية؟ مع استنزاف الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، ثم الأزمة المالية المستحكمة، هل يعود نجم كيندي ونظريته للظهور؟ وما رؤيتنا نحن العرب للنظام العالمي: هل انتهى نظام القطب الأوحد إلى غير رجعة؟ وماذا عن القوة العسكرية والعلمية الضخمة للولايات المتحدة على منافسيها وبفارق كبير؟ وماذا ستكون سياستنا في الحقبة القادمة إزاء النظام العالمي؟