لعب يهود الشتات، لسنوات طويلة، أدواراً مختلفة في الوعي الإسرائيلي؛ فقد نُظر إلى يهود الاتحاد السوفييتي ويهود أميركا الجنوبية على أنهم احتياطي المرشحين للقدوم إلى إسرائيل. أما يهود الولايات المتحدة فكان ينظر إليهم على أنهم مجموعة مانحة مالياً وضاغطة سياسياً لصالح الدولة اليهودية. أما يهود أوروبا فهم أشخاص "نسوا" إسرائيل ويجب "تطوير" وعيهم لجعلهم مثل يهود أميركا. ومع مرور السنوات، أخذت تتضح لقادة الصهيونية وإسرائيل أنه من المستحيل انتهاء "الشتات اليهودي" في وقت قريب. ويبدو الأمر جلياً في الولايات المتحدة التي يعادل عدد اليهود فيها عدد اليهود في إسرائيل. كما أن العلاقات بين يهود إسرائيل ويهود الشتات يشوبها التوتر رغم التعاون. فهناك فروق آخذة بالتزايد فيما يتعلق بالوعي، تنبع من الحياة اليومية المعاشة التي تقضي بأن الحياة باللغة العبرية في دولة ذات سيادة، لا تشبه حياة من يحاول الحفاظ على هويته اليهودية في محيط أغلبيته أجنبية. كما لا ننسى أن يهود الشتات يضطرون بالمقابل، أقلها منذ سنوات قليلة، إلى امتصاص موجات من الغضب بسبب سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين، في أوروبا على وجه الخصوص. وينطلق الإسرائيليون مما يسمونه "القومية اليهودية" والإيمان بأن أعضاء الجماعات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم هم في واقع الأمر شعب عضوي مرتبط ارتباطاً عضوياً وحتمياً بأرض "إسرائيل" التاريخية! ولهذا فاليهود المنتشرون في شتى أنحاء العالم، والذي يُسمى "المنفى" أو "الشتات" أو "الدياسبورا" حسب المصطلح وحسب المفهوم الصهيونيين، لا يدينون بالولاء لأوطانهم التي يقيمون فيها، ويحنون بطبيعتهم إلى "العودة" إلى "وطنهم"، أي فلسطين (!!!) لأنهم "يعرفون" أن جوهرهم اليهودي "لن يتحقق إلا هناك"، وأن وجودهم في أوطانهم المختلفة هو "وجود مؤقت". كما يحول الإسرائيليون يهود العالم إلى وسيلة في خدمة الوطن اليهودي القومي وليس إلى غاية لها قيمة في حد ذاتها، وهو ما عبر عنه المفكر الإسرائيلي "كلاتزكين" بقوله إن "الشتات في حد ذاته لا يستحق البقاء، لكنه قد يكون مفيداً كوسيلة". وقد أوضح اليهودي الروسي "أهارون جوردون" القضية حين قال إن "الدولة الصهيونية ستكون الوطن الأم ليهود العالم وتكون الجماعات اليهودية في الشتات مستعمرات لها". ويرى الإسرائيليون أن وجود اليهود خارج وطنهم القومي المزعوم قد حولهم إلى شخصيات هامشية طفيلية غير منتجة، وإلى كائنات شاذة وغير طبيعية. وقد عبر الكاتب "حاييم برينر" عن هذه الأفكار الصهيونية بكلمات فظة حين وصف اليهود بأنهم "مرابون" و"شخصيات مريضة" يحيون مثل "الكلاب والنمل"، وبأنهم "غجر وكلاب جريحة قذرة"، يجمعون المال ويتبعون قيم السوق، ودعاهم إلى الاعتراف بوضاعتهم منذ فجر التاريخ حتى الوقت الحاضر، وأن يبدأوا بداية جديدة في الوطن القومي. لقد كانت الرؤية الصهيونية للشتات اليهودي مقبولة على الدوام في إسرائيل ومختلفاً بشأنها في مواطن الشتات في العالم. وكان النقاش في الغالب يدور بين اليهود المهاجرين إلى فلسطين ويهود الشتات منذ بدء التجسيد الفعلي للحركة الصهيونية: أولئك الذين يعتبرون أن الصهيونية هي احتلال الأرض واحتكار العمل وأولئك الذين يرون أن صهيونيتهم هي مجرد دعم للشرف الصهيوني، بل إن هؤلاء امتلكوا مؤخراً تأثيراً على الحياة السياسية الداخلية في إسرائيل عبر تلقي الأموال من الخارج لدعم الحملات الانتخابية. ففي كل عام، تنظم مؤتمرات وحلقات دراسية لامتناهية حول جوانب علاقة إسرائيل مع الشتات. في هذه المؤتمرات تطرح قضايا مختلفة ذات جوانب نظرية ودينية وقيمية وسياسية وتاريخية. إلا أن مسألةً واحدةً لم تبحث في هذه المؤتمرات أبداً: تبرعات اليهود الأثرياء في الشتات للحملات الانتخابية في إسرائيل -خلال الانتخابات التمهيدية داخل الأحزاب، في الانتخابات العامة- ومدى تأثير هؤلاء اليهود على المنظومة السياسية الإسرائيلية. فالمسألة لم تكن سراً: كل التحقيقات تقريباً ضد رؤساء الوزراء الإسرائيليين الأخيرين تمركزت في جوانب مختلفة من عملية جمع الأموال في الخارج من أجل المنافسة الانتخابية. وفي هذا السياق، كتب "شلومو افينري" يقول: "الحاجة لجمع الأموال للمرشحين، خصوصاً في الانتخابات التمهيدية داخل الأحزاب هي أحد العوامل المركزية المؤدية إلى إفساد المعايير السلطوية في البلاد. إلا أن جمع الأموال في الخارج هو مساس خطير بالمبدأ الأساسي التي تقوم عليه الديمقراطية من خلال مصادرته لجزء ملموس من الحسم السياسي الموجود بيد السيادة -المواطنون- وسماحه لشخصيات ثرية من الخارج، ليست مواطنة في البلاد بالتأثير المباشر على نتائج الانتخابات. ليست هناك أي دولة ديمقراطية في العالم تسمح بالتبرعات للحملات الانتخابية فيها من مواطنين أجانب. من الواضح أن وضعاً فريداً قد نشأ هنا بسبب العلاقة الخاصة بين إسرائيل ويهود الشتات: نعيش في وضع يعبر فيه يهود الشتات عن تضامنهم مع إسرائيل ومع المشروع الصهيوني من خلال التبرعات للجباية اليهودية وللمؤسسات الأكاديمية والمنظمات غير الربحية في الرياضة والتعليم وما إلى ذلك. من هناك تدحرجت الأمور لتصل إلى التبرع للمرشحين السياسيين والتجربة البائسة بانتخاب رئيس الوزراء مباشرة عمقت من الارتباط بين المرشحين وأنصارهم الداعمين الماليين في الخارج". إسرائيل أقيمت قبل كل شيء حتى تكون مكاناً آمناً وملجأً لكل يهودي كائناً من كان. ضمن هذا المفهوم يفترض أن تكون إسرائيل بؤرة لتضامن يهود الشتات مع يهود "الوطن". لكن دون أن يحدد فيها يهود الشتات مصيرها، بل أن يكونوا وقودها عند الحاجة، من هنا ظهرت فكرة الشعب اليهودي في القرن التاسع عشر، حين قام مثقفون يهود من ألمانيا تأثروا بالحركة القومية الألمانية بالعمل على اختراع شعب يهودي حديث، فيما يهود الشتات المخزن الداعم له في السراء والضراء. وإن هم نجحوا في استغلال (استثمار) يهود العالم بدرجات عالية نسبياً، فإنهم -حقاً- أخفقوا في جعل "دولة إسرائيل" المكان الآمن المنشود، الأمر الذي جعل توتر العلاقة بين الدولة الصهيونية والشتات اليهودي علاقة متوترة باستمرار.