هل تعد هذه "أزمة الرأسمالية العالمية" الأخيرة، إذا ما اقتبسنا من ادعاءات معظم الكتاب العرب؟ قيل إن الأزمة التي تقضي على الرأسمالية تحدث أثناء كل ركود وأزمة مالية، منذ تنبأ كارل ماركس بسقوط الرأسمالية في منتصف القرن التاسع عشر. ورغم كل ذلك فإنني على ثقة من أن النمو الاقتصادي العالمي سيتواصل في ظل اقتصاد رأسمالي في أساسه. فلنضع بالاعتبار، مثلاً، مرور كل من إجمالي الناتج المحلي العالمي والتجارة العالمية بنمو غير مسبوق في العقد الذي تلا التنبؤات بسقوط الرأسمالية العالمية عقب الأزمة الآسيوية في تسعينات القرن العشرين. وأتوقع أن يتواصل النمو الاقتصادي العالمي القوي إذا تغلبت الولايات المتحدة على الصعوبات المالية الحادة الحالية. هل كان مدى مشاركة الخزانة الأميركية ومصرف الاحتياطي الفيدرالي في الأسواق المالية خلال الأسابيع القليلة الماضية مبرراً؟ بالتأكيد، كان هنالك اعتقاد واسع النطاق خلال الأسبوع الماضي لدى كل من المسؤولين الحكوميين والمشاركين في الأسواق المالية بالانهيار التام لأسواق الأسهم قصيرة الأجل. ورغم قلقي بشأن وجود سيطرة حكومية أكبر على التعاملات المالية، فقد توصلت على مضض إلى أن التدخل الملحوظ كان مبرراً لتجنب انهيار كبير قصير الأمد للنظام المالي والذي من شأنه أن يدفع بالاقتصاد العالمي إلى حالة ركود كبيرة. لكن علينا وضع المخاطر المحتملة لهذه التحركات الحكومية بالاعتبار: 1- قد يجد دافعو الضرائب أنفسهم عالقين بمئات المليارات من الخسائر الناتجة عن التأمينات المختلفة والتعهدات الحكومية الأخرى. ورغم تضخيم وسائل الإعلام العالمية لهذه الاحتمالية، فمن غير المرجح أن تكون الخسارة بذلك الحجم، شريطة ألا يقع الاقتصاد الأميركي في حالة ركود كبير متواصلة. 2- تبعث الأخطار المعنوية الناشئة عن هذه التحركات على القلق بكل تأكيد. فمن جانب، فقد هلكت أسهم المساهمين والإدارة في "فاني ميه" و"فريدي ماك" و"بير ستيرنز" و"إيه آي جي" و"ليمان براذرز" بأكملها تقريباً، بحيث إنها لم تُستثن من الخسائر الكبيرة. ومن جانب آخر، فإن ذلك يصعّب الحصول على أسهم إضافية للشركات التي تعاني من المشاكل لأن المزودين سيتوقعون هلاك رأسمالهم في أي برنامج مساعدة حكومية مفروض في المستقبل. 3-يثير التأمين الكامل لسوق المال في البنوك الاستثمارية مخاطر معنوية جادة. فحيث إنه من غير المرجح أن يكون ذلك التأمين مؤقتاً فقط، سيكون لدى هذه البنوك الحافز للقيام بمخاطر أكبر في استثماراتها لأن التزاماتها قصيرة الأجل في أموال المودعين في أسواق المال تتمتع بحماية حكومية كاملة. لقد شكل هذا النوع من الحماية أحد العوامل الرئيسة في أزمة "الادخارات والقروض" في ثمانينات القرن العشرين، وقد تكون ذات دلالة أكبر في قطاع البنوك الاستثمارية الأكبر بكثير. 4- تم ارتكاب عدد من الأخطاء أثناء تحركات الحكومة في الأسواق المالية خلال الأسابيع القليلة الماضية. ويمثل حظر عقود البيع القصيرة مثالاً على النهج المتكرر في معالجة الصعوبات. فعمليات البيع القصيرة لم تسبب الأزمة لكنها تعكس الاعتقادات بالمدة المتوقعة لاستمرار الهبوط. وتؤدي محاولة منع التعبير عن هذه الاعتقادات إلى كتم معلومات مفيدة، وتخلق مشاكل جدية بالنسبة للعديد من صناديق التحوط التي تستخدم عمليات البيع قصيرة الأجل للتحوط من مخاطر أخرى أيضاً. كما أن منع ذلك قد يثير ذعراً أكبر في أسواق أخرى. 5- كما تلوح مخاطر سياسية محتملة لهذه التحركات الحكومية. فقد كان ينبغي إغلاق "فاني ميه" و"فريدي ماك" منذ وقت طويل أو تحويلهما إلى مؤسستين خاصتين دون حماية تأمينية حكومية لأعمال الإقراض فيهما. فقد كانت مشاركتهما المكثفة في الأوراق المالية المدعمة بالرهن أحد أسباب التمويل المفرط للرهون السكنية. ولكني أخشى من قيام الكونجرس بإعادة تشكيل هاتين الشركتين بصورتهما الأولى تقريباً، وبمهمة مواصلة توسيع سوق الرهون بصورة زائفة. 6- هنالك تأثيرات بعيدة الأمد للتدخل الحكومي، وستظل ملازمة لنا لجيل كامل. بالنسبة لكافة مشاكلها الأخيرة، فقد أحدثت أسواق الأسهم الأميركية الديناميكية ازدهار البلاد الفريد. ومن حيث الأساس، يعد إضعاف هذه الأسواق من أجل التخفيف من الاضطرابات قصيرة الأمد، أمراً ينم عن قصر نظر بالغ. أوافق على أنه ربما تكون "الإصلاحات" ضرورية، لكن ينبغي على محبي الحكومة أن يكونوا متنبهين لخنق المهام المشروعة لهذه الأدوات القوية في التمويل المعاصر. علاوةً على ذلك، ينبغي على خبراء الاقتصاد والمحللين السياسيين والصحفيين والمفكرين في العالم العربي، أن يضعوا حجم هذه الأزمة في المنظور الصحيح. ورغم أن هذه هي الأزمة المالية الأكثر حدةً منذ "الكساد العظيم" في ثلاثينات القرن العشرين، فإنها أزمة أصغر بكثير، لاسيما من حيث آثارها في الإنتاج والتوظيف: بلغ معدل البطالة حوالي 25% خلال معظم العقد بين 1931 و1941، مع انخفاضات حادة في إجمالي الناتج المحلي. لكن إجمالي الناتج المحلي الأميركي لم ينخفض من حيث الأساس خلال هذه الأزمة، وبلغ معدل البطالة حوالي 6.5% فقط. ومن المرجح أن يتفاقم هذان الرقمان، لكن ليس لهما أبداً أن يقاربا ذلك المستوى الذي كانا عليه في ثلاثينات القرن العشرين. ستنجو الرأسمالية من الأزمة المالية الحالية، حتى وإن أدت إلى ركود كبير (الأمر الذي قد لا يقع). ستنجو نظراً لعدم وجود بديل ذي موثوقية مؤكدة. فالبدائل السوفييتية، والماوية، والإيطالية الميركنتلية (الفاشية)، والكوبية، والفنزويلية... تمثل بدائل غير جذابة على أقل تقدير! لن تؤدي الأزمة الحالية -ولا ينبغي لها أن تؤدي- إلى استبدال رأسمالية السوق الحر بنظام بديل للإدارة الاقتصادية. وفي حال كانت لديكم براهين تجريبية لنظام آخر أفضل من النظام الرأسمالي، من حيث تحسين أوضاع البشر على كافة الصعد، فنرجو إعلامنا بها! ورغم أن الأزمة قد أدت إلى تغيير الحد بين السوق الحرة والحكومة لصالح الأخيرة، فإنني ما زلت متفائلاً في مستقبل رأسمالية السوق الحر باعتبارها النظام الوحيد الذي يجسد النمو الاقتصادي والريادة والتسامح واحترام الكرامة الإنسانية. فادي حدادين محلل اقتصادي في معهد "كيتو"- واشنطن العاصمة ينشر بترتيب خاص مع خدمة "مصباح الحرية"