ينطلق بولس الخوري في كتابه "العالم العربي والتحول الاجتماعي والثقافي"، والذي نعرضه هنا بإيجاز، من فرضية مفادها أن المرحلة الحالية من تاريخ العالم العربي تتميز بكونها مرحلة تحول ثقافي أو انتقال من حالة التخلف إلى حالة النمو والتقدم. وإلى ذلك، يعتمد الكتاب على مقاربة ثقافية يعتبرها الأكثر شمولاً والتصاقاً بالواقع التقليدي الراهن للمجتمع العربي، مقاربة تقوم على أمرين؛ اعتبار إنسانية الإنسان كقيمة محورية، واعتماد العقل معياراً وحكَماً. أما التحول فيتحدد هنا بكونه علاقة توتر بين الذات والحداثة؛ توتر يخترق العالم العربي وهو يواصل ربط طرائق عيشه بقيم النموذج الاجتماعي الثقافي التقليدي، فيما نراه عرضة لاجتياح التقنيات والأيديولوجيات الوافدة من الغرب. ضمن هذه النظرة النقدية، يتطرق المؤلف إلى قضايا ومواضيع مختلفة، مثل الدين والعلمنة والثورة الثقافية والالتزام السياسي والإيمان والاستلاب والتربية والتحرر الاجتماعي... لكن ماذا تعني الحداثة؟ سؤال يلح على وعي المؤلف ويتردد كثيراً في صفحات الكتاب، ولعله عقدة التشابك الملتبس بين الكلمات والسطور والفصول. فالانتقال إلى الحداثة يعني في الذهن تجاوز المرحلة الدينية، كما أن المقارنة بين النظرتين الدينية والمعلمنة إلى العالم، تُبرز لا محالة أوجه التعارض بينهما، فالنظرة المعلمنة أو الإنسانوية لم تتكون تاريخياً إلا في إطار الصراع ضد النظرة الدينية، أي في مراحل تطابقت مع انتصارات وتعديات على النظرة اللاهوتية للحياة. ويتوقف المؤلف مطولاً عند نقاط الخلاف الجوهرية بين النظرتين ومواقع تعارضهما وتصادمهما. لكن بقدر ما يبين التناقض بين طرفي ذلك الصراع، نجده يستنبط أوجه التوافق بينهما، مستلاً عناصر صيغته التوفيقية للخروج من المأزق وشق الطريق. فتجاوزاً لذلك التعارض "الظاهري"، يرى المؤلف إمكانية إنتاج أشكال ثقافية تتآلف فيها، وفق معايير مختلفة، عناصر لاهوتية وإنسانوية، بمقتضى الأفكار الجديدة لعصر ما بعد العلمنة، حيث يتأتى التوفيق بين الثقافة الدينية والثقافة المعلمنة. وبالطبع لا يقصد بذلك إمكانية الرجوع إلى الماضي، بل ضرورة التعرف على جوهر الثقافة في الدين، وصولاً إلى "الإيمان الحي"، أي الإيمان الذي يجعل من الإنسان إنساناً حقاً، لذلك "تضمّن الإيمان بالله الإيمان بالإنسان". هذه المركزية التي يريد المؤلف إحلال الإنسان فيها، هي الهدف العريض لما يدعوه "الثورة ضد التأخر والانقسام"، وهما مشكلتان تنتظمان سائر مشكلات الواقع العربي الراهن. وتأسيساً على ثلاثة مفاهيم يقترحها حول الإنسان، يتضح أن "الثورة المرجوة" هي ثورة أخلاقية (إنسان روحاني)، وثورة سياسية (إنسان مادي)، وثورة ثقافية (صاحب عقل وحاجات). ولتجاوز التوتر بين النماذج الثلاثة يبقى الموقف النموذجي للإنسان البالغ والواعي هو الموقف النقدي، أي الموقف الذي ينبني علي دور العقل في إدارة الصراع ودرئه... والحال هنا أن العقل النقدي لا يصبح فعالاً بذاته ما لم يتخذ لنفسه مبدأ "الإيمان بالإنسان". ولأن النقد يجافي الدوغماطيقية، ويمثل علامة على الرشد والعقلانية والحرية، يحاول المؤلف الإطلالة من شرفته الواسعة على الأيديولوجيا، بصيغها واستراتيجاتها وتكتيكاتها المختلفة، موضحاً أنها قد تلتقي مع الرؤية الإنسانوية في قضية أو أكثر من قضايا الممارسة السياسية، لكنها (أي الأيديولوجيا) تبقى خادعة إن كثيراً أو قليلاً، من هنا يأتي تأكيده على الحاجة إلى نوع من الحرية إزاء السياسة والأيديولوجيا معاً. وإذا كانت قضية التحول الثقافي، هي بالأساس قضية بناء نموذج اجتماعي ثقافي جديد، فهي إذن قضية تحرر اجتماعي. وأخذاً في الاعتبار واقع العالم العربي، حاجاته ومقدراته البشرية والمادية ووظائفه الاجتماعية وقيمه الإنسانية... يعرض المؤلف ثلاثة خيارات؛ الاختيار الديمقراطي بما يعنيه من حرية ومشاركة ومسؤولية سياسية، ثم الاختيار الاشتراكي بقدر ما يعنيه من "إرادة للعدالة والمساواة"، وأخيراً الاختيار النقدي بما يشير إليه النقد من قدرة على التمييز والفهم السليم. وعلى العموم، فإن الإنسان العربي اليوم يمكنه التحكم بعملية تحوله الثقافي وتحرره، لكن عليه أن يترجم خياراته في هذا المجال إلى سياسة تربوية تطبيقية. وهذا ما يدفع المؤلف للحديث عن نظرية سياسية وتطبيقية في التربية، موضحاً أن تكوين منظومة تربوية تتلاءم مع حقائق وحاجات وضع البلدان العربية الشامل، ليس بالأمر السهل، رغم أن الكفاءات العربية متوفرة، وأن خبرة البلدان الأخرى تساعد على تحاشي المآزق وتوفر وقتاً ثميناً للخروج من إسار التخلف. ومع ذلك لا يخفي المؤلف خشيته من "الحلقة المفرغة" التي قد تجهض مشروع التغيير في التربية وسواها من المجالات الأخرى، ويقصد بها أن "رجالاً لم تكتمل تربيتهم هم الذين يضطلعون بتربية رجال يكونون أكمل تربية منهم". هكذا يبدو التحول الثقافي، كما يقترح المؤلف ملامحه وصيغه العامة، وكأنه ثورة ثقافية تشمل السياسة والأخلاق، وتعتمد التربية والتقنية وسائل لتحقيق أهدافها، أي لبناء الإنسان الجديد، القادر، بذهنيته العقلانية النقدية، على الاطلاع ببناء عالم إنساني يكون من صنعه وليس مفروضاً عليه. وبذلك يتضح لقارئ الكتاب كيف غيّر اتجاهه من المنهج الوضعي التحليلي، كما يقتضيه عنوانه على الأقل، إلى حقل الأيديولوجيا والأخلاق، إذ انصب اهتمامه على تحديد "الأصلح" وما يجب أن يحدث، باحثاً في الشروط التي يستوجبها مسار التغيير وصولاً إلى الثورة الثقافية، أي الثورة التي تحقق التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي والتربوي... بما يشتمل عليه تناول كهذا من فائض في التنظير ووفرة في الأحكام المعيارية وأحكام القيمة، حول ما هو كائن وما يجب أن يكون معاً! محمد ولد المنى الكتابي: العالم العربي والتحول الاجتماعي الثقافي المؤلف: بولس الخوري الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر تاريخ النشر: 2007