يشكل المشهد الأميركي الراهن، مع انقضاء شهر سبتمبر 2008 مشهداً مناقضاً لمشاهد نهاية الحرب الباردة عام 1991، عندما بدت الولايات المتحدة والرأسمالية منتصرة إلى درجة إعلان مفكرين وسياسيين عن تحقق النصر الرأسمالي الليبرالي العظيم الذي سيكون "نهاية التاريخ"، والآن وعلى رغم أنّه من المبكر معرفة النتائج الدقيقة للأزمة الاقتصادية التي تعيشها الولايات المتحدة، والانهيارات المتتالية لبنوك وشركات تأمين وتمويل عملاقة فإنّ المؤكد أنّ العالم بعد هذه الأحداث لن يكون هو ذاته قبلها، وهناك تساؤلات الآن حول مصير الرأسمالية، ومصير الفكر الليبرالي ومصير القيادة الأميركية للعالم. ضمن تفاصيل المشهد الحالي، تقف روسيا والصين في مقدمة الدول المرشحة لشراء رموز الإمبراطورية المالية الأميركية، من شركات وبنوك كبرى، فهل يمكن القول الآن فعلا إنّ الولايات المتحدة انتصرت فعلاً في الحرب الباردة؟ أم أن ميخائيل غورباتشوف، آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي، سيدّعي الآن أن سياسة "الجلاسنسوت" (الانفتاح) قد نجحت؟ يبدو أن فرص استمرار القيادة الأميركية للعالم أصبحت موضع شك حتى من القوى الغربية الرئيسية، وهو ما عبّر عنه وزير المالية الألماني، بير شتاينبروك، بقوله إن "العالم لن يعود أبداً إلى ما كان عليه قبل الأزمة، ستفقد الولايات المتحدة مكانتها كقوة عظمى في النظام المالي العالمي". بالنسبة لمصير نظام السوق الحر، اضطرت الولايات المتحدة، لترك تطرفها الرأسمالي، وإلى أن تتراجع عن مقولات عدم جواز تدخل الحكومة في المؤسسات المالية، لتقوم بعمليات تدخل كبيرة لحماية الأسواق، وشراء ودعم الكثير من البنوك والشركات. وقد نعتَ غوردون براون رئيس وزراء بريطانيا، السنوات الفائتة بأنها "عصر اللامسؤولية". ولعل أشد الدعوات لمراجعة الرأسمالية، جاءت من الرئيس الفرنسي، بقوله إنّ الأزمة الحالية "قتلت المعتقدات التي تلت سقوط جدار برلين بأنّ الديمقراطية والسوق هما الحل لكل مشاكل الإنسانية". وقال إنّ مذهب "دعْه يعمل" انتهى. ولكن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وآخرين غيره، يرون أنّ المشكلة ليست في جوهر الرأسمالية وقيمها، بل في النظام الراهن للرأسمالية، ويدعون لإعادة تأسيس الرأسمالية على أسس أخلاقية جديدة، وعلى أساس التوازن بين الدولة والسوق. وبدورها رفضت صحيفة "فايننشال تايمز" في افتتاحية عنوانها "نهاية مبدأ دعه يعمل؟" التشاؤم لتقول إنّ مبدأ "دعه يعمل" عاش أزمة كبرى في كساد عام 1929، واستغرق الأمر خمسين عاماً حتى عادت الرأسمالية في القطاع المالي للعمل كليّاً، وهي ترى أنّ مبدأ "دعه يعمل" عاش أزمات أسوأ وسيكون قادراً على البقاء. وإذا سلمنا بما يقوله الرئيس ساركوزي أي "أننا بحاجة لإعادة بناء النظام المالي والنقدي العالمي من جذوره"، فإنه يمكننا أن نتوقع أنّ مؤسسات بريتون وودز، (صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية)، كلها قد تخضع لمراجعة، أو يختلف دورها، وبالتالي نصبح أمام قواعد جديدة للاستثمار والتجارة في العالم أقل تحرراً مما كان يدعو إليه الغرب. وعلى الصعيد الفكري تعتبر الأزمة ضربة لفكر الليبراليين الجدد، الذي يدعو لحكومات ضعيفة ولعدم تقديم الكثير من الخدمات الاجتماعية، وللخصخصة الشاملة، وقد استفزت الأزمة ردود فعل شعبية غاضبة، إلى درجة أنّ قادة كنائس إنجلترا وصفوا بعض المضاربين في أسواق المال بأنّهم قُطاع طرق ولصوص. وتشير عناوين صحف أميركية إلى حجم الرفض الاجتماعي لطبقة كبار رجال الأعمال، فمثلاً قالت مجلة "التايم" إنّ الأزمة الراهنة هي "ثمن الطمع". وقالت صحيفة شيكاغو تريبيون "لوموا الطمع"! ومثل هذه المواقف، تتضافر مع رؤية الحزب "الديمقراطي" في الولايات المتحدة، بأنّ خطط الدعم والإنقاذ يجب أن تتجه لمساعدة الناس العاديين المتورطين بالأزمة، لا كبار الشركات ورجال الأعمال، مما يعكس ميلاً للعودة لليبرالية الاجتماعية كما طبقت في السبعينيات والثمانينيات، وكما تطبق في بعض أنحاء أوروبا حتى الآن، ولذا يمكن توقع استعادة الحكومات الكثير من الوظائف الرقابية، ولوظائف تقديم الخدمات الأساسية. وبالمجمل يبدو مرجحاً أنّ مكانة الولايات المتحدة في قيادة النظام المالي العالمي، ستتراجع، مما سيؤثر على قدراتها السياسية أيضاً، ولكن بالنسبة للرأسمالية والليبرالية، فإنّ تعديلًا وتهذيباً للمبدأين قد يحصل، خصوصاً إذا وصل "الديمقراطيون" إلى البيت الأبيض، ولكنها ستستمر المذهب الأقوى عالمياً.