الحرب الباردة التي بدأت مباشرة عقب نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 بين "الحلفاء" الذين نجحوا في هزيمة دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، كان محورها الأساسى الصراع الأيديولوجي بين الرأسمالية ممثلة أساساً في الولايات المتحدة الأميركية، والشيوعية ورمزها البارز الاتحاد السوفييتي السابق. وقد أسقطت الهزيمة التي لحقت بألمانيا النازية نظرية المجال الحيوي التي تبناها هتلر، والتي كان مفادها أن لألمانيا مجالاً حيوياً لابد لها أن تسيطر عليه إن لم يكن بممارسة النفوذ السياسي فبالغزو المسلح للأقاليم والدول التي اعتبرتها ألمانيا هي مجالها الحيوي. وتبدو خطورة هذه النظرية في أن تعريف المجال الحيوي لقوة عظمى محددة يعتمد على إدراك النخبة السياسية الحاكمة لحدود هذا المجال، وقد تؤدي الأطماع الاستعمارية إلى توسيع هذا المجال من خلال غزو أقطار مجاورة، وضمها إلى أراضي القوة العظمى. وقد أدت الهزيمة الساحقة التي لحقت بألمانيا النازية إلى خفوت صوت أنصار نظرية المجال الحيوي، التي هي من الأفكار الأساسية لعلم الجغرافيا السياسية التقليدي. ولو طبقنا منهجيات علم اجتماع المعرفة لعرفنا أن انصراف اهتمام علماء السياسة بالجغرافيا السياسية مرده إلى سقوط نظرية المجال الحيوي في سياق هزيمة ألمانيا النازية. غير أن الولايات المتحدة الأميركية التي خرجت هي وحلفاؤها منتصرة في الحرب العالمية الثانية، ابتدعت نظرية جديدة هي مذهب "الاحتواء" Containment الذي صاغه الدبلوماسى الأميركي "جورج كينان" باعتباره سياسة وقائية ضد احتمالات الغزو الشيوعي الإيديولوجي السوفييتى. وذلك لأن الاتحاد السوفييتي وإن لم يرفع راية المجال الحيوي، كانت سياسته تقوم على تصدير الثورة البلشفية إلى مختلف بلاد العالم، ومحاصرة الرأسمالية في معاقلها التقليدية. وقد أدت سياسة الاحتواء الأميركية إلى اشتعال حرب باردة فكرية عنيفة بين دعاة الشيوعية وأنصار الرأسمالية. وكانت النهاية الدرامية للاتحاد السوفييتي بانهياره حوالى عام 1991 وتفكك دول أوروبا الشرقية التابعة له، إيذاناً بنهاية حقبة الصراع الإيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية، وهي التي دشنها فكرياً المفكر الأميركى اليابانى الأصل "فوكوياما" بكتابه الشهير "نهاية التاريخ". انتهى الصراع الإيديولوجي إذن، غير أننا شهدنا كباحثين في العلم الاجتماعي عدة ظواهر مترابطة تحتاج إلى تفسير. أولى هذه الظواهر بروز نظرية "صراع الحضارات" التي روج لها "صمويل هنتينغتون"، وزعم فيها أن القرن العشرين سيشهد بداية الحروب الثقافية والتي رشح لها الحضارة الغربية في مواجهة الحضارتين الإسلامية والكونفشيوسية. وبغض النظر عن هذه النظرية وما آلت إليه من الدعوة إلى حوار الثقافات بدلاً من الصراع بين الحضارات، لاحظنا باعتبارنا من المهتمين بسوسيولوجيا المعرفة (علم اجتماع المعرفة) صعوداً جديداً لعلم الجغرافيا السياسية، وإحياءً لنظرية المجال الحيوي التي كنا ظننا أنها انتهت بهزيمة ألمانيا النازية. ما الذي يدعو إلى صعود هذه النظرية من جديد؟ هذا سؤال بالغ الأهمية لأن الإجابة عليه ستفسر عديداً من الظواهر الدولية التي برزت في العقود الأخيرة. ولعل الإجابة تكمن في الحقيقة التي مؤداها أنه ما دام أن الصراع الإيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية قد انتهى بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتحول العالم كله في الشرق والغرب إلى نموذج العولمة الرأسمالية، فإن الدول وخصوصاً الدول الكبرى أصبحت تهتم اهتماماً شديداً -في إطار المنافسة العالمية في مجالات الأسواق والطاقة على وجه الخصوص- بتحديد وتوسيع مجالها الحيوي كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. روسيا لم تدخل في هذا المجال لأنها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سقطت في وهدة الفوضى العارمة والانهيار الاقتصادي والتدهور السياسي، ولذلك انكفأت على نفسها لكى تلملم جروحها العميقة. لم تعد لها مكانة مرموقة في النظام الدولي، ولم يعد أحد يحسب حساباً لقوتها العسكرية ولنفوذها السياسي. ولذلك اندفعت الولايات المتحدة الأميركية بدلاً من سياسة "الاحتواء" القديمة إلى تطبيق كوني غير مسبوق لنظرية المجال الحيوي التي تم إحياؤها في العقود الأخيرة. غير أن مفهوم أميركا لمجالها الحيوي -ويحدث ذلك لأول مرة في التاريخ- ينبسط ليشمل الكون كله! ويشهد على ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية قسمت العالم إلى مناطق عسكرية ولكل منطقة قيادة محددة، تحت إمرتها أساطيل وطائرات وقوات عسكرية. وقد أرادت الولايات المتحدة الأميركية أن تنتهز فرصة الضعف التي تمر بها روسيا فمدت مجالها الحيوي إلى حدودها من خلال استقطاب دول أوروبا الاشتراكية السابقة لتصبح تابعة لها سياسياً بضمها إلى حلف الأطلسي، واقتصادياً من خلال مدها بالمساعدات، غير أنه أخطر من ذلك كله إقامة شبكة متكاملة من الصواريخ بعيدة المدى تحاصر بها استراتيجياً روسيا، بزعم أنها موجهة ضد إيران، وذلك على رغم الاعتراض الشديد لروسيا على أساس أن ذلك يهدد أمنها القومي. ولم يلتفت "صقور" إدارة الرئيس بوش من "المحافظين الجدد" إلى أن روسيا في عهد بوتين بدأت نهضة شاملة، سياسية واقتصادية وعسكرية. وأساء خبراء هذه الإدارة الاستعمارية التي بلغ من طموحها أنها تريد استعمار الكون كله، قراءة التحولات الكبرى في المجتمع الروسي، وبروز اتجاهات وطنية وقومية عبرت عنها أحزاب روسية متعددة. وقد أتيح لي أن أطلع بالتفصيل على خريطة هذه التحولات في كتاب بالغ الأهمية صدر باللغة الفرنسية هذا العام (2008) عن "الأكاديمية الأوروبية للجغرافيا السياسية" بعنوان "روسيا: حرب باردة جديدة" وهو يضم مجموعة متنوعة من الأبحاث المتعمقة التي تكشف عن ملامح الخريطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الروسية. والكتاب حافل بالدراسات الأصيلة التي تطبق بشكل إبداعي النظريات الحديثة للجغرافيا السياسية، والتي تشير إلى أننا في الحقبة التاريخية القادمة سنشهد تطبيقات مختلفة تمارسها الدول الكبرى في ميدان تحديد مجالها الحيوي، مما يشي بقيام صدامات سياسية كبرى، قد تتحول إلى مواجهات عسكرية مباشرة. ولعل الحملة العسكرية الروسية التي وجهت إلى جورجيا عقاباً لها على تدخلها العسكرى الفظ في أوسيتيا الجنوبية، وما أدت إليه من مواجهة سياسية كبرى بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبى، دليل على ما نقول. فقد أعلن "بوتين" بعد إعلان استقلال كل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا أن روسيا تعترف بهذا الاستقلال، وستعقد مع البلدين اتفاقات أمنية وعسكرية. ومن ناحية أخرى كانت التصريحات الروسية بالغة الصراحة في مجال حرص القادة الروس وعلى رأسهم "بوتين" على الدفاع عن المجال الحيوي الروسي، والذي يشمل دول أوروبا الاشتراكية السابقة علـى رغم كل المحاولات الأميركية النفاذ إليها. ومما يشهد على صدق مقولتنا في إحياء نظرية المجال الحيوي أن الولايات المتحدة الأميركية اعتبرت أن غزوها العسكري للعراق -وإن لم تصرح بذلك- دفاع عن مجالها الحيوي، بحكم أن العراق يمتلك مخزوناً هائلاً للنفط تريد أن تقوم بحراسته مباشرة لضمان تدققه، وذلك من خلال إنشاء قواعد عسكرية دائمة في العراق. وهذه القواعد العسكرية يدور حولها خلاف شديد بين القيادة السياسية العراقية والولايات المتحدة الأميركية لأنها جزء من اتفاقية أمنية مختلف بشأن نصوصها المجحفة والتي تريد منها أميركا استعمار العراق إلى الأبد!