من أكثر ما يثير الدهشة في الصراع بين حركتي "فتح" و"حماس"، والانفصال المترتب عليه بين الضفة الغربية وغزة، هو استسلام الشعب الفلسطيني، أو ما يبدو كذلك. فهذا شعب استعصى على كل محاولات الإخضاع التي قامت بها سلطة احتلال متجبرة باستخدام كثير من أساليب "إرهاب الدولة". لذلك يبدو غريباً خضوعه لممارسات فصائلية تدمر ما بقي من أمل في التحرر من الاحتلال، الذي أبى أن يستسلم له، وخصوصاً حين تنطوي هذه الممارسات على عبث لم يكن ممكناً تخيله منذ سنوات قليلة. إن العبث الصغير الحالي حول التوقيت الشتوي وحول استطلاع هلال رمضان... سيكبر بسرعة ليقود إلى صدام آخر مع حلول العام المقبل حين تنتهي فترة رئاسة محمود عباس في 9 يناير. فالسيناريو المتوقع هو أن يبقى عباس في منصبه حتى موعد الانتخابات التشريعية في يناير 2010، وأن ترفض "حماس" ذلك وتعتبر وجوده غير شرعي. ومن هذه الممارسات إلى القمع المنظم الآخذ في الازدياد بالتبادل بين غزة والضفة، يثار السؤال عن صمت الشعب الفلسطيني ذي التاريخ النضالي المشهود إزاء هذا الوضع الذي يجعل أنصار "فتح" في غزة في خوف عظيم وأتباع "حماس" في الضفة في فزع مقيم؟ فإلى متى ستحمل إلينا الأنباء تفاصيل مخزية عن الانتهاكات التي يتعرض لها بعض الفلسطينيين من النوع الذي عرفوه وخبروه جيداً في هجمات قوات الاحتلال على بلداتهم وقراهم لتظفر ببضع أسرى تزج بهم وراء القضبان ويقوم سجانو العدو بتعذيبهم؟ ولماذا لا تقول لنا المنظمات والمراكز الحقوقية الفلسطينية، التي كسرت حاجز الصمت أخيراً وأصدرت تقارير عن تعذيب المعتقلين في غزة ورام الله وغير ذلك من انتهاكات مخجلة، إن هذا التعذيب أشد قسوة في بعض الأحيان مما تمارسه سلطة الاحتلال؟ هذه، وغيرها، أسئلة تحير شباناً وشابات في بلاد عربية شتى. فالمشهد الذي يتابعونه الآن في قطاع غزة والضفة الغربية يستعصي على الاستيعاب، إلى حد أن أحدهم سأل في ندوة أقيمت بالقاهرة قبل حوالي أسبوعين سؤالاً موحياً للغاية، إذ قال: "عندما نفت غولدامائير وجود شعب فلسطيني، أثبت لها هذا الشعب، ولكل أركان دولتها، أنه ليس فقط موجوداً بل حياً ومقاوماً ومتمسكاً بحقوقه وقادراً على الصمود... فأين ذهب هذا الشعب الآن؟”. ورغم أن المشهد محبط، فالأرجح أنه لن يطول كثيراً وأن الشعب الفلسطيني سيثبت مجدداً قدرته على الانبعاث من تحت رماد الصراع الضاري بين من استأمنهم على قضيته فعبثوا بها وأفسدوا فيها. وربما يجوز، بقدر من التجاوز، إجراء مقارنة بين حالة هذا الشعب الآن وما أصابه إبان هزيمة 1967 حين وجد فلسطينو القطاع والضفة أنفسهم تحت الاحتلال الصهيوني، بينما كان اللاجئون بينهم يحلمون بالعودة إلى حيفا ويافا وعكا والناصرة. والمفارقة، هنا، هي مع الفارق بطبيعة الحال. فالقاسم المشترك الذي يعنينا بين الحالتين هو "الشكل" المؤقت الذي انتاب فلسطينيي الضفة والقطاع من هول المفاجأة الصاعقة حين وجدوا الجنود الصهاينة فوق رؤوسهم في عام 1967، وعندما استبيح الدم الفلسطيني بأيد فلسطينية وسقطت مقولة كانت تبدو لهم في أعلى مقام وهي أن هذا الدم خط أحمر، ثم تحول مجاهدو ومناضلو الحركتين الأكبر من المقاومة التي تستهدف تحريرهم من الاحتلال الصهيوني إلى تحرير غزة من حركة "فتح" وتحرير الضفة من حركة "حماس"! لا يصح أن نستهين بأثر هذه الصدمة الرهيبة التي جعلت ما بقي من حلم الدولة الفلسطينية المستقلة يتهاوى أمام فلسطينيي المنطقتين اللتين كان يفترض أن تُقام فيهما هذه الدولة. وإذا كان أثر الصدمة على فلسطينيي الضفة والقطاع قد استمر لأكثر من ثماني سنوات قبل أن يستعيدوا توازنهم ويشرعوا في الانتقال من الصمود السلبي الذي حافظوا عليه إلى المواجهة الإيجابية ومقاومة سلطة الاحتلال وقواتها، فالأمل أن يكون أثر الصدمة الراهنة أقصر مدى. والرجاء ألاَّ يمضي وقت طويل حتى يستعيدوا زمام المبادرة. وقد ينجحون في إعادة الفصيلين إلى دورهما الأصلي المقاوم، لكن بصورة أكثر رشداً وعقلانية مما كان عليه الحال منذ أن قاما بعسكرة انتفاضة الأقصى وإبعادهم عنها، وبالتالي فتح الطريق مجدداً أمام المقاومة المدنية ذات الطابع الشعبي الواسع. فقد كان هذا الشعب هو الذي حمل على عاتقه أعباء مواجهة الغزوة الصهيونية منذ أن بدأت الهجرات اليهودية، قبل أن يتم "تعريب" الصراع و"انتزاع" نظم حكم عربية مهمة تحرير فلسطين، ثم استعاد دوره في هذه المهمة بعد أن كشفت حرب 1967 نظم الحكم في "دول الطوق" أو "دول المواجهة" وأظهرت خطأ، وربما خطيئة، الاعتماد عليها. وعندئذ استأنف المجتمع الفلسطيني دوره الذي تعرض للتهميش حين تصدرت تلك الدول المشهد ما بين حربي النكبة والنكسة (1948 و1967). فما إن استفاق هذا المجتمع من صدمة الاحتلال عام 1967، وبعد سنوات ركز فيها على توفير مقومات الصمود والحفاظ على الهوية وبناء شبكات التضامن والتعاضد الاجتماعي، حتى شرع في التحول إلى الاحتجاج الإيجابي على هذا الاحتلال اعتماداً على أشكال متنوعة ومستويات متفاوتة من الاعتصام والإضراب والتظاهر، فضلاً عن مقاطعة المحتل ورفض التعامل معه كلما أمكن. كان هذا هو الطابع الذي ساد الانتفاضة التي اندلعت عام 1987، وشاركت فيها فئات المجتمع جميعها. وكان للصبية الصغار دور محوري فيها، مما أدى إلى تسميتها "انتفاضة أطفال الحجارة" في كثير من وسائل الإعلام العالمية، على نحو أكسبها تعاطفاً واسع النطاق وجعلها نقطة تحول في وعي المجتمع الدولي بقضية فلسطين وإدراكها باعتبارها قضية حية تتعلق بحياة ملايين البشر، بينهم أطفال وشيوخ ونساء. غير أن هذا الحضور القوي للمجتمع الفلسطيني بمكوناته المختلفة والمتنوعة في النضال من أجل التحرير، أخذ في التراجع كلما ازدادت مساحة الاعتماد على السلاح وتنامى دور الأجنحة المسلحة التي أنشأتها المنظمات. وبدلاً من أن تتكامل المقاومة المسلحة والمواجهة المجتمعية المدنية الشعبية، طغت الأولى على الثانية ثم همشتها إلى أن نحّتها جانباً فاختفى المجتمع من المشهد الفلسطيني، وصار السلاح هو البطل وليس الإنسان الصامد المقاوم القادر على تحديد آليات النضال ووسائله وأدواته الأكثر فاعلية ومراجعتها وتطويرها من مرحلة إلى أخرى. ولم يحدث في تاريخ النضال الفلسطيني، مثل هذا الإصرار على اختزال مقاومة يخوضها شعب بأكمله في بضعة آلاف من أبنائه الأعضاء في الأجنحة العسكرية لفصائل وضع معظمها مصالحه الخاصة الضيقة فوق المصلحة الوطنية أو على الأقل في موقع يتساوى معها. وهكذا تراجع دور المجتمع، وبالتالي الشعب الفلسطيني، عندما صار السلاح هو "المقدس" وليس التحرر الوطني بغض النظر عن وسائله، أي حين باتت الوسيلة هدفاً بشكل أو بآخر. وكان هذا نذير شر قلّ من لاحظه ونبَّه إليه عندما أصبحت عسكرة انتفاضة الأقصى أكثر أهمية من فاعليتها والنتائج التي يمكن أن تسفر عنها. وكان منذراً بشر لأن الوسيلة لا تصبح هدفاً إلا عندما يتراجع الأمل في بلوغ الهدف أو يكاد. وهذا ما ظهر جلياً حين تصاعد الصراع بين حركتي "فتح" و"حماس"، وأنتج المشهد البائس الراهن الذي يغيب فيه المجتمع ويستسلم لأمر واقع تفرضه إحدى الحركتين باسم شرعية تاريخية تآكلت فيما تمليه الأخرى بزعم شرعية انتخابية مثيرة للسخرية كما للحسرة. وحتى الاحتجاجات الصغيرة المحدودة التي حدثت ضد الاقتتال بين الحركتين انتهت تقريباً منذ هيمنة "حماس" على قطاع غزة الذي يقبع الآن تحت حكم شبه عسكري. وهاهم ملثمو "كتائب القسام" و"إخوانهم" في شرطة "الحكومة المقالة" ينشرون رعباً بأكثر مما تمارسه الأجهزة الأمنية للسلطة في الضفة الغربية. غير أنه ليس القمع وحده هو الذي يدفع الشعب الفلسطيني إلى الاستسلام لهذا الوضع المؤلم. فقد تنامت على مدى ما يقرب من عقد ونصف العقد علاقة "زبائنية" اشتد عبرها اعتماد قطاعات متزايدة في هذا الشعب على سلطة أوسلو "الفتحاوية" من ناحية، وعلى مؤسسات وجمعيات "حماس" الخدمية والخيرية من ناحية ثانية. ومع ذلك، فالرجاء ألاَّ يطول غياب الشعب الفلسطيني واستسلامه على هذا النحو الذي ينذر بدفن قضيته، وأن يتمكن من استعادتها ممن انغمسوا في تضييعها بعد أن ملأوا الدنيا ضجيجاً وهم يزعمون أنهم الجديرون بها.