بزغت الشمس وتوارى رمضان، فهذه أشعة شمس العيد الأولى تصدح فيها أصوات التكبيرات الخارجة من كل حدب مع أصوات الطيور وكل حيّ، ويبدأ الجميع في الاتجاه إلى تلك الأصوات المكبرة، إلى تلك الجوامع والمساجد، فهذه حال نهار العيد في أي مكان وزمان. وفي بزوغ شمس أحد الأعياد، ومع أصوات التكبيرات، كنت كغيري متجهاً إلى الصلاة، وكنت على متن سيارتي، وقبل الوصول تعطل جهاز التحكم الإلكتروني لكي تتوقف بنا "أنا وصديقي" من دون سابق إنذار ومن دون أسباب!. ثم ترجلنا لنشترك مع الساعين إلى الصلاة على أقدامهم، وقد بدا عليّ الغضب الشديد من سيارتي، وأجهزتها المعقدة، أما صاحبي فكان كثير المرح والسرور من دون أسباب محددة كسيارتي المتعطلة، وأكثر ما يميز صاحبي هذا أن حاسة السمع القوية عنده قوةً خارقة، وهذا على خلاف حاسة البصر حيث كان ضعيفَها، وكان لقوة سمعهِ هذه أن يقدر على نقل أحوال وأحداث أُناس مختلفي الأعمار والجنسية بمجرد أن يمروا بمسافة بعيدة عن السمع الطبيعي وهم يتحدثون، وأتذكرُ أنه عرض عليّ كتاباً ألفهُ وأسماهُ "مر على بعدٍ وسمعت عن قربٍ". وكالعادة أخذ يلتقط جملاً وأحاديث، وهذه المرة من خلال غابة الأقدام المتحركة لأداء الصلاة، وفي كل صيدٍ سمعيٍّ لهُ يعلق عليه مدعياً رغبتهُ في إبعاد الغضب عني بسبب تعطل السيارة بنا. فأول ما التقط سمعهُ القوي رجل يقول لصحبهِ وهم يمشون: اكتشفت أنني اقتصادي ورجل تجارة ومال بعد أن درست تخصصاً بعيداً عن الاقتصاد والإدارة... وآخر يحاكيه: أود أن يعود الزمن لأدرس الأدب وأكون أديباً. فأخذ رفيقي مستخفاً بهما: إن ذاك الرجل الذي اكتشف أنه اقتصادي ويود أن يعود به الزمن لكي يدرس الاقتصاد، ليصبح لنا مورداً اقتصادياً مهماً، فلو درس الاقتصاد لفشل فيما يدعي اليوم أنه رجل مال وتجارة، لأن دراسته السابقة لا محالة أنها مكنته بصورة أو بأخرى من التعامل مع بيئة الاقتصاد والتجارة التي يعيشها، أو أن البيئة التي يعيشها تمضي من دون أسس الاقتصاد، وكأن الدخول والكسب أمر طبيعي وبسيط، واَعتقد أن الكثير من أصحاب المال في العالم لا يجيدون علوم الاقتصاد والتجارة! أما الأديب الذي لم يولد فمن المؤكد أنه قرأ رواية ومجموعة قصصية أعجبتهُ، وأخذ يتصور أن في أغوارهِ الدفينة ملامح وخصائص الأديب... ألا يعلم بأن الأديب الناجح شخص يحمل قدراً عالياً من المعرفة والفلسفة والتخيل والتصوير ويرى ويتأثر ويلمس الكثير مما يتعلق ويتصل بالإنسان... فكيف نصنع من ذاك الرجل أديباً!؟ فقلت له: هرول قليلاً لكي نصل بسرعة. مسكَ ساعدي قائلاً: لن نصل إلا وأنت مبتسمٌ. وأطلق ساعدي ووضع راحة يده اليسرى على كتفي الأيمن قائلاً: هذا الطرفة سوف تضحككَ كثيراً لترسم بعد ذلك بسمه طويلة نستظل تحتها في هذا النهار. رددتُ عليه: إنكَ تسترق السمع. فبادر مبرئاً نفسهُ من السرقة: إنها مَلَكة وَهَبنِيها الله عز وجل، وربما اُبتليت بها، ولكنك معي في ابتلاء التحديق والفكر. وهو على ابتسامة يتردد على طرفها استهزاء قال: في حديث تلك المجموعة إن العيد فيما مضى كان أكثر جمالاً وفرحةً وروعةً وله رونق كبير وعظيم وليس كأعياد هذا الزمان، فهذه ليست أعياداً.فما اليوم إذن! أنسميهِ "عد" ونقول إن العولمة سرقت الياء من العيد. فقلت مقاطعاً سخريته: الكل يقول أحلى زمان هو ذاك الذي مر وأمسى من الماضي. ولكن العيد هو العيد، ولا توجد كلمة أَجَلَّ من وصفهِ بالعيد، إنهم كانوا فيما مضى صغار السن أو إنهم كانوا صغار العقول أو خالين من الهموم والمشاكل فالعيد ثابت وهم المتغيرون. ثم مر رجل كبير أمامنا يصحبُ أولادهُ الشباب، فقال قوي السمع: لا أسمع عندهم سوى التكبيرات. وبعد برهة قال شديد السمع: أترى ذاك الفريق؟ فقلت: لا، لا أحب النظر إلى الغير. فأكمل: لا يهم المهم أن تبتسم وتضحك، إنهم يتحدثون عن الدول العربية التي لا تتفق على شيء حتى على العيد، فالعيد لا محالة يوم يحملُ حديثاً عن السياسة واختلاف المذاهب! ألا يعلمون أن اختلاف الدول العربية، يؤكد فشل نظرية الأمن القومي العربي، فنحن دول أمنها مختلف ومتضارب كما هِلالها. وفجأة انفجر رفيقي ضاحكاً وقال: هذه سوف تضحككَ لا محالة، سمعت فتى يقول لرفيقه، هذا هو العيد وعيدي أنا لا يكتمل إلا بوصل الحبيب المفارق، فيا عيد أيعود ذاك الحبيب؟ ورفيقهُ يواسيهِ... ثم انقلبت حال شديد السمع وكان هذه المرة قد صَادَ نفسَهُ بشباكهِ وحلَّق يتساءل وعيناهُ تتأملان الوجود من حولهِ: لماذا الكل ينتظر من الأعياد الفرحة والسرور والسعادة أن تجتمع وتحتشد على بيتهِ طارقةً بابهُ؟ فالعيد مُطالب بالكثير لدى الناس، ربما لأنه لا يحتمل إلا الفرح والسرور والمحبة. ولكن من يسعى إلى الفرحة والسرور، أليست الفرحة والسعادة صناعة! ربما هي كذلك! وإذا كان الجزء الأكبر منها صناعة ما أسهل أن تصنعها في المناسبات الدينية والاجتماعية! ومن المُحال أن تلازمك دوماً فالأيام متقلبة لتقلب أحوالنا فيها! وإذا صنعتَ السعادةَ لنفسك فأنت كريم على نفسك ومن حولك. وما أنبل ذاك الذي يصنعها ليبيعها غيرَه!. وبينما رفيقي في تأملهِ سها عنيّ برهةً، فأخذت أهرول بقوة لكي أتجاوز صديقي مسترقِ السمع أو سارقِه وكان ثقيلًا بعض الشيء في وزنه وثقيلاً على النفس لقوة سمعهِ وتعليقهِ على الناس، فابتعدتُ عنهُ قليلاً، وكنت أقول بصوت خافت ما أوقح رفيقي إنه وقح بأذنيهِ. ثم لحقني وقد بذل جهداً كبيراً واستدار أمامي وهو يتنهد: سمعتُكَ، سمعتُكَ وأنت تنعتني بالوقح، مَلَلتَ أذنيّ ولساني، ولكي لا أكون بغيضاً في رفقتكَ سوف أكون أخرس، لا بل لن أسمع شيئاًَ لكي لا أتحدث.. وأخذ براحتي يديه وقفل بهما أذنيه. فضحكت لما فعل بقوة وطارت طيور غضبي وانزعاجي، فتعجب رفيقي: أهذا ما أضحككَ!. وكل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الفطر المبارك.. وعيدكم مبارك وعساكم من العايدين والسالمين..