لا زلت أذكر شهر رمضان من ذلك العام، قبل أربع سنوات، عندما أعلن عن وفاته رحمه الله، في التاسع عشر من الشهر المبارك، الموافق للثاني من نوفمبر من عام ألفين وأربعة. كنتُ في رحلة عمل إلى الأردن، وبلغنا النبأ هناك قبيل سفرنا بساعات عائدين إلى الإمارات. قالت لي زوجتي إن إمام المسجد في دبي أعلن لهم خلال صلاة التراويح نبأ وفاة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله. وما إن بلغ الناس الخبر، حتى ضج المسجد بالبكاء والنحيب والدعاء للراحل الكبير، الذي لا زال الجميع يذكرونه بالخير، ولا يرد اسمه إلا ويقترن بأصدق الدعوات له بالرحمة والمغفرة. عندما نزلت في مطار دبي، بدا لي وكأن الدولة التي اشتهرت بأنها قبلة للناس والسياح والتجار من كل حدب وصوب، قد اتشحت بالسواد والكآبة. كان الحزن يكسو الوجوه، وعلامات التأثر، تغشى محيا الأوقات والأماكن قبل البشر، حيث كان غير الإماراتيين يشاطرون أبناء هذه البلاد مشاعر الألم على فقد زايد، المؤسس والباني. بدا التفاعل طبيعياً، فرغم اتساع مساحات التأثر بالوفاة، إلا أن هذا كان متوقعاً، كتفاعل شعبي جارف من قبل أناس صدق زايد معهم حاكماً، ووصل ليله بنهاره من أجلهم، فصدقوه محبة، وكافأوه دعاءً. وينقضي العام الرابع على رحيل الرجل النادر في هذا الزمن، مؤكداً مقولة سيلفادور دالي الشهيرة: "العظماء لا يموتون"، فالذكرى حية في الأفئدة، وإنجاز المؤسس ماثل للعيان، شاخص للأبصار، يلمسه القريب، ويراه البعيد، ويشعر به الصديق... أما العدو، فإحدى خصال الرجل رحمة الله عليه، أنه قاد سياسة بلاد أسسها، بحكمة وحنكة، جعلتها قريبة من الدول والشعوب والحكومات على حد سواء، واختط لدولته سياسة ابتعدت عن تشكيل العداوات، رغم أن الجغرافيا كتبت على الإمارات أن تكون في وسط منطقة متلاطمة بالحروب والفتن والثروة والأطماع. وإذا كان الحياد بارداً، فإن زايد العظيم، أنزل الله عليه شآبيب الرحمة، لم يكن بعيداً عن أحداث أمته، فقد كان له في كل عرس عربي قرص، وفي كل قضية ملحة حضور يحقق للرأس رفعة وللوجه بياضاً، لكنه اختار الاعتدال والروية والحكمة في ممارسة ردود أفعاله، بعيداً عن الانفعال والتسرع والعجلة. وبسلوك من عرف الفقر والغنى، وجرّب الشدائد قبل أيام الراحة، فإن تدفق الثروة بين يدي زايد، لم يكن يوماً سبباً في أن يتسرب إلى نفس الرجل مثقال ذرة من كبر، أو قيد أنملة من خيلاء، فبقي الكبير كبيراً في اليسر قبل الشدة، والضيق قبل السعة، وكان كبيراً بتواضع يلمسه الصغير قبل الكبير، لأن معدنه الأصيل يجعله يتعاطى مع الناس بالسوية، كما يكون الحاكم العادل. ثمة ملمحان رئيسيان يلمحهما كل من تأمل نهج الوالد المؤسس، أولهما أنه ركّز في بناء الدولة على صناعة الإنسان، قبل البنيان، والإنسان لبُّ عملية التنمية وأساسها. أما الملمح الثاني، فهو أن زايد وكما كان يتعاطى في حياته مع أقوال المرجفين، وأصوات المشككين، فعل الشيء ذاته، بعد وفاته، غفر الله له. فليس سراً أن تحليلات هنا، وتكهنات هناك، كانت ترى أن وفاة زايد، ستكون سبباً في تشرذم الاتحاد، عاصفة بالوحدة، لكن هؤلاء لم يتبينوا قوة الأساس، وأن الشجرة التي بذرها زايد، أصلها ثابت وفرعها في السماء، فذهبت التحليلات والتكهنات أدراج الرياح، مصداقاً للآية القرآنية الكريمة: (فأما الزبدُ فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).