عندما طرح صمويل هنتينغتون في العقد الأخير من القرن الماضي أفكاره السخيفة المتهافتة علمياً عن صِدام الحضارات لاشك أنها وجدت هوى عند قطاعات بعينها من النخب الغربية، سواء كان ذلك بسبب الفهم الخاطئ من قبل هذه القطاعات لجوهر الإسلام وروحه، أو لأنها كانت نخباً ذات مصلحة في إيجاد مبرر عقيدي لما ينوي اليمين المحافظ الأميركي فعله فيما لو آلت إليه السلطة، وقد كان، وتولى جورج بوش الابن الممثل الأمين لهذا اليمين المحافظ رئاسة الولايات المتحدة اعتباراً من 2001 وبدأ في وضع برنامج اليمين المحافظ موضع التطبيق. من ناحية أخرى لاشك أن قطاعات مماثلة في الأوساط العربية والإسلامية قد سعدت بهذا الطرح كونه يقدم لها مبرراً قوياً على سلامة أفكارها التي تدعو إلى الصدام الشامل والمطلق مع الغرب، والانخراط معه في صراع بكل الوسائل، كما يعبر عن ذلك فكر تنظيم "القاعدة"، باعتبار أن ذلك "جهاد" مطلوب لنصرة الإسلام على أعدائه. وقد عززت أحداث 11 سبتمبر2001 التي حلت ذكراها السابعة في هذا الشهر هذه الأفكار الخطيرة، فإذا كان صمويل هنتينغتون قد نظَّرَ للصدام بين الحضارتين الغربية والإسلامية فها هم "المسلمون" يأتون إلى الولايات المتحدة الأميركية، ويدمرون رموز حضارتها، فيما ظهرت مؤشرات يمكن توظيفها للزعم بوجود شماتة عربية وإسلامية فيما جرى، وسارت في الاتجاه نفسه تصريحات لقيادات غربية سياسية ودينية تحدثت عن "حروب صليبية"، أو حاولت تشويه صورة الإسلام، وكذلك بعض الأعمال التي أججت صدور المسلمين ضد الغرب كما في الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام. في هذا الإطار بدا أن الحلقة قد اكتملت، وأننا إزاء استقطاب تام فكري وسياسي وربما عسكري بين الغرب والإسلام، غير أن حقيقة الأمر بالتأكيد ليست كذلك، إذ بدأت المؤشرات تتراكم من ناحية أخرى للتدليل على أن هذا الغرب ليس كتلة صماء اجتمعت على قلب رجل واحد في عداء الإسلام، وإنما هو تكوين طبيعي يضم المتشددين وأضدادهم. المنغلقين والمنفتحين. أصحاب المصالح والمواطنين البسطاء. وظهر هذا جلياً في أكثر من مناسبة مهمة. وعلى سبيل المثال لم يكن خافياً على أحد إبان التهديد الأميركي بغزو العراق وتصاعده في عام2002 ثم تنفيذه فعلاً في2003 أن أقوى موجات الاحتجاج الجماهيري وأشدها ضراوة جاءت من مدن غربية بل أميركية وبريطانية تحديداً، وعرف عديد من هذه المدن مظاهرات ربع مليونية ونصف مليونية تندد بالسياسة الأميركية فيما كانت ردود الفعل العربية الجماهيرية خجولة للغاية، إن لم تكن غائبة تماماً في بعض الأحيان، وعندما استفاقت الجماهير العربية على خطورة ما يُضمر للعراق، وربما شعرت بالخجل من أن غيرنا يولي قضايانا اهتماماً أكبر مما نولي، جاء تحركها فاتراً ضعيفاً، ولم يفلح في أن يؤثر في مجريات الأمور بدرجة أو بأخرى. وبدا المعنى واضحاً: إن فكر صدام الحضارات ليس وحده في الساحة. صحيح أن بعض تلك التحركات الجماهيرية الغربية ربما كان نوعاً من الحرص على عدم الزج بالوطن وأبنائه في حرب بلا معنى، لكن المؤكد من ناحية أخرى أن الموقف من السياسة الأميركية وإدانتها كانا هما العاملان الحاسمان فيما جرى. مثال آخر لا يمكن إغفاله هو واقعة السفينتين اللتين أبحرتا إلى غزة في الشهر الماضي تحملان العشرات من نشطاء السلام "الغربيين" الذين رأوا أن كسر الحصار على غزة ومن ثم مسح وصمة العار التي يمثلها في جبين كل من يتواطأ في فرضه أو يسكت عليه أهم بكثير من تقويض سلطة "حماس" الإسلامية في هذا القطاع، هذا في الوقت الذي لم يحرك فيه طرف عربي رسمي واحد ساكناً إزاء ما يجري من جريمة إنسانية بكل المعايير في القطاع. يتصل بما سبق ويعززه ما حملته لنا وكالات الأنباء في الأسبوع الماضي من أنباء سارة بخصوص ما حل باليمين المتطرف الألماني والأوروبي الذي حاول جمع قادته ومناصريه لعقد مؤتمر في مدينة كولونيا الألمانية تحت شعار "مواجهة أسْلمة كولونيا" ومنع بناء مسجد فيها. بالتأكيد كان المرء يتوقع ردة فعل شعبية ضد المؤتمر وفكرته، لكن قوة ردة الفعل هذه وفعاليتها فاقت لا ريب أي توقع، فقبل يومين من الموعد المحدد لعقد المؤتمر جابت شوارع كولونيا تظاهرات عدة ضمت أكثر من عشرة آلاف شخص للتنديد باليمين المتطرف والنازي وبمؤتمره التحريضي، وحاصر المتظاهرون قيادات اليمين الآتية على ظهر مركب سياحي إلى كولونيا، وألقوا عليهم الحجارة، وأطلقوا الهتافات ضدهم، ومنعوهم من النزول لمتابعة برنامجهم. ثم أصدرت قيادة شرطة المدينة قراراً بمنع قادة اليمين المتطرف من عقد مؤتمرهم في الساحة التي كانت قد اختيرت لهذا الغرض والسير بتظاهرة في المدينة، وبرر الناطق باسم الشرطة القرار بأن "أمن المواطنين أهم من عقد المؤتمر والتظاهرة"، وفيما كان المنظمون يتوقعون مشاركة 1500 شخص في ذلك اليوم لم يحضر أكثر من خمسين شخصاً، وأعرب محافظ المدينة الذي ينتمي إلى الحزب الديمقراطي "المسيحي" عن ارتياحه الكبير لقرار المنع، ووصفه بأنه "انتصار للمدينة وللقوى الديمقراطية فيها"، واعتبر الحضور الهزيل لجماعات اليمين المتطرف إفلاساً واضحاً لهم، وكان قد أعلن في كلمة ألقاها في إحدى التظاهرات المعادية للمؤتمر أن كولونيا "ليست مدينة للمتطرفين وإنما مدينة للتعددية واللاعنف". لم يقف الأمر عند هذا الحد بل لقد ذكرت التقارير أن سائقي التاكسي رفضوا نقل قيادات اليمين من المكان الذي حوصروا فيه على النهر، ورفضت الشرطة مساعدتهم لعدة ساعات على مغادرة المكان، وعندما تمكنوا من الانتقال إلى أحد المقاهي وطلبوا تخصيص صالة مغلقة لهم أبلغ أحد المتظاهرين صاحب المقهى بهوية ضيوفه فرفض التعامل معهم، وسبق ذلك توافق أصحاب المقاهي في كولونيا على عدم استضافتهم. قد يقال إن هذه التحركات كلها كانت موجهة ضد اليمين المتطرف والنازي وليست من أجل الإسلام، غير أننا لا يمكن أن نتغاضى عن أن الصراع المباشر كان يدور حول قضية تتعلق بحرية المسلمين في ممارسة شعائرهم في مدينة أوروبية مسيحية، وأن حدة الاعتراض على ذلك اليمين كان من الممكن أن تكون أخف لو كان هناك عداء مستحكم وشامل ومطلق للدين الإسلامي والمسلمين. لا شك أن هذا المثال وغيره مما أشارت إليه هذه السطور أو مما غاب عنها يجدد الأمل في عالم لا تسوده أفكار بائسة كفكرة صِدام الحضارات، وما يترتب عليها من دعوة إلى علاقات عداء صماء بين طرفين يفترض أن كلا منهما يحمل انبثاقاً من دينه قيماً سامية لا ينبغي أن يؤثر فيها المتطرفون على هذا الجانب أو ذاك. ولاشك أننا كعرب سواء على صعيد حكوماتنا أو منظمات مجتمعنا المدني مطالبون بإعادة النظر في استراتيجية تعاملنا مع الغرب من أجل النفاذ إلى القطاعات التي تربطنا بها قواسم قيمية مشتركة نصرةً لقضايانا وقضايا الإنسانية، بدلاً من أن ننشغل بتحميل الغرب مسؤولية كل مآسينا، أو يُهرع بعضنا في غيبة كاملة من قيم الإسلام إلى الاعتداء على أي مكان يُشك أن صلوات مسيحية تقام فيه. صحيح أننا عانينا كثيراً من السياسات الغربية منذ عصر الاستعمار، لكن الأمل يبقى قوياً ألا يكون أبناء كولونيا نسيج وحدهم، وأن ثمة جسوراً للتفاهم بين العرب والغرب على أساس من قيم إنسانية سامية.