ميزنا في المقال السابق، بين ثلاثة مستويات لتطور الدولة عند ابن خلدون وهو شيء يفرضه اختلاف تصوره للدولة باختلاف الزاوية التي ينظر منها إليها. وهكذا، فإذا كان تطور الدولة من خلال تطور الحسب داخل البيت المالك، وتطورها حسب حال العصبية داخل العصبة الحاكمة، إنما يعنيان شيئاً واحداً، وهو تطور العلاقات داخل الجماعة التي قادت الثورة وتسلمت الحكم، فإن الدولة تبعاً لذلك، تتطور ككل، حاكمين ومحكومين، على نفس الوتيرة تقريباً. وتطورها على هذا المستوى العام، داخلي وخارجي معاً: داخلي- ذاتي يخص العلاقات بين مكونات العصبية صاحبة الدولة، وخارجي يخص العلاقات بين العصبية الغالبة الحاكمة، وبين العصبيات المغلوبة المحكومة. وبما أن هذه العلاقات الخارجية تابعة لنوع العلاقات الداخلية السائدة بين أهل العصبية الحاكمة، فإن هذا التطور العام للدولة الكلية العامة (كدولة الأمويين ودولة العباسيين) سيسير على نفس الخط، وسيجتاز نفس المراحل التي تجتازها "الدولة الشخصية" (كدولة معاوية أو هارون الرشيد): مرحلة الالتحام والقوة، مرحلة الاستبداد والمجد، ثم مرحلة التفكك والضعف. وهكذا فالدولة الكلية، تجتاز ثلاثة أطوار رئيسية: طور التأسيس والبناء، طور العظمة والمجد، طور الهرم والاضمحلال. يتميز الطور الأول -موضوع هذه المقالة- بخصائص ومميزات، أهمها: 1- استمرار العصبية، بالمفهوم الذي شرحناه من قبل، أي سيطرة الأنا العصبي على الأنا الفردي داخل العصبة التي استلمت الحكم والسلطة. إن العصبة الغالبة تعتبر الحكم، في هذا الطور، مغنماً لها ككل، ورئيسها يعتبر نفسه، بدوره، واحداً منها، بل خادماً لها، فهو "لا ينفرد دونهم بشيء، لأن ذلك هو مقتضى العصبية" وهم "ظُهراؤه على شأنه، وبهم يقارع الخارجين على دولته، ومنهم من يقلد أعمال مملكته ووزارة دولته وجباية أمواله، لأنهم أعوانه على الغلب، وشركاؤه في الأمر، ومساهموه في سائر مهماته". ولما كان "الجاه مفيداً للمال" كما قررنا من قبل، فإن المساهمة في الجاه والسلطة تستلزم ضرورة المشاركة في المال والثروة. ذلك "أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل والعصبية، بمقدار غنائمهم وعصبيتهم... فرئيسهم في ذلك متجافٍ لهم عما يسعون إليه من الجباية، معتاض عن ذلك بما هو يروم من الاستبداد عليهم، فله عليهم عزة، وله إليهم حاجة. فلا يطير في سهمانه (لا ينال هو شخصياً) من الجباية إلا الأقل من حاجته، فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتاب والموالي، مملقين في الغالب، وجاههم متقلص لأنه جاه مخدومهم، ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه في أهل عصبيته". إن العلاقات السائدة داخل العصبية الحاكمة في هذا الطور الأول من أطوار الدولة هي بكلمة واحدة: المساهمة في السلطة، والمشاركة في الثروة الناجمة من الغنائم، غنائم النصر، وتلك هي "الديمقراطية القبلية". ولذلك تكون الدولة في هذا الطور قوية مرهوبة الجانب، نافذة الكلمة على جميع المناطق التي يمتد إليها سلطانها، لأن ولاتها في هذه المناطق هم أفراد العصبة الحاكمة وقوادها، وكل منهم يعتبر نفسه جزءاً من العصبة يخدمها وتخدمه. فالمصلحة الشخصية للحاكم، مهما كان المستوى الذي يحكم منه، مستمدة من المصلحة العامة للعصبة الحاكمة، ولذلك فلا تناقض بين مصلحته ومصلحة عصبته ككل. ب- والخاصية الثانية التي يمتاز بها هذا الطور، طور التأسيس، هي أن علاقات الدولة برعيتها من جنس علاقات أفرادها بعضهم مع بعض. فإذا كانت العلاقات القائمة بين أهل الدولة، أفراد العصبية الحاكمة، هي علاقات مشاركة ومساهمة، فإن علاقاتها مع أهل العصبيات الذين أصبحوا تحت سلطتها، ومع سكان المناطق الخاضعة لنفوذها، هي أيضاً علاقات تتسم بكثير من الرفق والتسامح لأنها صادرة عن "الخلال الحميدة" التي جعلت العصبية الحاكمة تتبوأ منصب الرئاسة ومن ثمة الملك. وهكذا "فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من النواحي والأمم، فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله(...) علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم...". ومن الخلال التي "تكون شاهدة لهم بالملك إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التجار والغرباء وإنزال الناس منازلهم؛ وذلك أن إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في الشرف ويجاذبهم حبل العشير والعصبية ويشاركهم في اتساع الجاه أمر طبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم (بالفتح) أو التماس مثلها منه. وأما أمثال هؤلاء، أي التجار والعلماء... ممن ليس لهم عصبية تتقى ولا جاه يرتجى، فيندفع الشك في شأن كرامتهم، ويتمخض القصد فيهم أنه للمجد، وانتحال الكمال في الخلال والإقبال على السياسة بالكلية. لأن إكرام أقتاله وأمثاله ضروري في السياسة الخاصة بين قبيله ونظرائه. وإكرام الطارئين من أهل الفضائل والخصوصيات كمال في السياسة العامة: فالصالحون للدين، والعلماء للجأ إليهم وإقامة مراسم الشريعة، والتجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم، و(إكرام) الغرباء من مكارم الأخلاق وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف وهو العدل، فيعلم بوجود ذلك من عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك". وباختصار يمكن القول إن علاقة صاحب الدولة مع أهل عصبيته مبنية على سياسة كسب القلوب: قلوب أفراد عشيرته وأهله الأقربين والأبعدين. أما سياسة العصبية الحاكمة مع العصبيات المغلوبة، فهي أيضاً تستهدف كسب ولائها ومناصرتها. ج- والخاصية الثالثة التي يتميز بها طور التأسيس، تتعلق بالسياسة المالية للدولة. وهي سياسة تابعة للأساس الذي أقامت عليه سلطتها وبنَت عليه مجدها. فإذا كان هذا الأساس هو الدين، كانت سياستها حينئذ قائمة "على سنن الدين، فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية، وهي قليلة الوزائع (الضرائب التي تفرض بالجملة على منطقة أو مجموعة من الأشخاص يتوزعون أداءها فيما بينهم)، لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت، وكذا زكاة الحبوب والماشية، وكذا الجزية والخراج وجميع المغارم الشرعية، وهي حدود لا تُتعدى". أما إن كان الأساس الذي قامت عليه الدولة هو العصبية وحدها، فإن سياستها المالية في هذه الحالة لابد أن تكون مبنية على خلق البداوة: "والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتجافي عن أموال الناس، والغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر، فيقل لذلك مقدار الوظيفة الواحدة (ما يفرض من ضريبة على شخص بعينه) والوزيعة التي تجمع الأموال من مجموعها. وإذا قلت الوزائع والوظائف على الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيه، فيكثر الاعتمار ويتزايد محصول الاغتباط بقلة المغرم...". ثم إن الدولة في هذا الطور، ونظراً لقربها من حياة البداوة "تكون قليلة الحاجات لعدم الترف وعوائده، فيكون خرجها وإنفاقها قليلاً، فيكون في الجباية حينئذ وفاء بأزيد منها، بل يفضل منها كثير من حاجاتهم". يتضح من ذلك أن السياسة المالية للدولة في هذا الطور تقوم على الاقتصاد في النفقات وعدم الاشتطاط في الضرائب. والنتيجة التي تحصل من هذه السياسة هي: كسب رضا الرعية من جهة وتجمع المال وتراكمه في يد الدولة من جهة ثانية. ذلك لأن اقتصاد أهل الدولة في النفقات لا يسمح بنمو الفوارق بينهم وبين رعاياهم، من جهة، كما يجعلهم في غير حاجة إلى الضغط والاستغلال. أما خفض قيمة الضريبة أو الوزيعة فإنه يعود على الدولة بأموال كثيرة لكثرة من يدفعها من أفراد الرعية. فإذا "كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع كثرت الجباية التي هي جملتها". والنتيجة المحتومة من مثل هذه السياسة هي ظهور بوادر الرخاء والرفاهية في صفوف مختلف الفئات، الحاكمة منها والمحكومة على السواء، وبذلك تدخل الدولة في الطور الثاني، طور العظمة والمجد.