تخيلوا كارثة أن نعيش من دون مُفتين أو فقهاء أو مشايخ حريصين على درء كل المؤامرات التي تهجم علينا ليل نهار، من الغرب، والشرق، والشمال الفاسق، والجنوب الوثني؟ كل صباح نستيقظ على "مؤامرة"، وكل مساء نأوي إلى فراشنا بعد أن نئد مؤامرة. على الظهيرة مؤامرة، وفي العشاء مؤامرة. نتنفس مؤامرات، ونقرأ مؤامرات، ونرى مؤامرات متحركة على التلفزيون، ونسمع مؤامرات في الراديو. نكتشف مؤامرات منمقة في أدوات مغرية في الصالونات، ومؤامرات معلبة في علب السردين والتونة، ولم نعد نستطيع، نحن الناس العاديين، متابعة ازدحام هذه المؤامرات. مؤامرات من كل حدب وصوب! كل ما نطلبه من بعض شيوخنا الأفاضل أن يعكفوا على مختبراتهم العلمية في بطون الكتب الصفراء التي يستنشقون منها روائع الفتاوى ثم ينفثونها في وجوهنا، ويعملوا على تصنيع مسبار أو مجس نسميه "كاشف المؤامرات". يصير هذا "الكاشف" متوفراً في الأسواق وفي أيدي الأفراد العاديين المحاطين بالمؤامرات، فيتمكنوا من كشف المؤامرات التي تتسلل إلى غرف بيوتهم وعقولهم وأفكار أولادهم وبناتهم من دون أن يدروا. لكن إلى أن يتم اختراع ذلك المجس العظيم ليس لنا إلا أن نعتمد على عبقرية مفتينا ومشايخنا الأفذاذ في الكشف عن هذه المؤامرات اللعينة! والمشكلة الكبيرة أن هذه المؤامرات تأتي بكل الأحجام والمقاييس، بكل الألوان والأذواق، وكل واحدة منها تأتي متخفية في ثوب لا يمكن لأكثرنا ذكاء، نحن الناس العاديين أن يكتشفها. لهذا فنحن محظوظون حقاً وفعلاً بوجود جيش من المفتين الذين يمكننا الاعتماد عليهم كدرع واقية للدفاع عنا ودرء سهام المؤامرات والمتآمرين. فبعض مشايخنا الموقرين هم وحدهم من يتميز بقدرة فائقة تلتقط مؤامرات المتآمرين، وتحبط مخططاتهم الشريرة. فمن منا، مثلاً، يمكن أن يخطر بباله أن ثمة مؤامرة تعيش بيننا منذ عقود عن طريق "فأر" هنا، أو مؤامرة تتخفى عن طريق "سحلية" هناك، أو مؤامرة مدفونة في رفض امرأة فتوى "إرضاع الكبير" متسببة في إحباط زميلها المتدين في العمل! ماذا سيحل بنا لو، لا سمح الله، تم إغلاق أفواه هؤلاء المشايخ؟ وكيف ستغدو "حصوننا مهددة من الداخل"! إذ لولاهم لما استطعنا أن ننام قريري العيون، مطمئنين إلى أن "حدودنا" و"ثغورنا" محروسة من قبلهم. لولاهم لاستمرت غفلتنا المخيفة حين نترك أولادنا يضحكون جذلين بين أيدي "ميكي ماوس" الماكر، وكنا نظنه بسبب جهلنا الكبير مجرد فأر بسيط فإذا بأمره ينكشف على أيدي المفتين، أبقاهم الله سنداً وذخراً لتخلفنا العميق، ونراه جندياً من جنود إبليس اللعين متخفيّاً في زي فأر بريء يريد الإجهاز على عقول أطفالنا. بل وحتى من كنا نظنهم مجرد فئران بريئة ثبت بالوجه القطعي أنها ليست إلا كائنات قميئة يجب قتلها "في الحل والحرم"، وهي جزء من مؤامرة كونية ضدنا. ولولا هؤلاء المشايخ اللماحين أيضاً لما استطعنا ائتمان الأسواق على نسائنا، وهي الأسواق التي تتربص بهن صباح مساء. فهم وحدهم، وبفتاويهم الحريصة عليهن، قد انتبهوا إلى أن النقاب بعينين اثنتين يترك مجالات هائلة، لا نستطيع تخيلها، للفتنة، وقالوا بضرورة الاكتفاء بنقاب ذي عين واحدة! وعملياً ماذا تريد نساؤنا فعلاً أكثر من عين واحدة لرؤية الطريق والسلع في الأسواق؟ ولماذا الترف في استخدام عينين اثنتين في حين أن واحدة تكفي؟ وانتبهوا أيضاً بحذاقة مدهشة أن بروز الكحل في عينين اثنتين مؤداه خطير على أجيال ملايين الشباب الذين سينهارون كتماثيل البسكويت لما يروا العيون الكحلى. ولهذا فإن إخفاء عين وإظهار عين سيقيهم خطر الجمال الماحق، ويحفظ للأمة شرفها وأجيالها الطالعة والتي تتوعد المجد والسؤدد! وفي الواقع فإن النقاب بعين واحدة سيكون له بُعد جمالي فريد وما بعد حداثي. فلنتخيل عيناً واحدة مفتوحة في اليمين وأخرى مخفية في اليسار في نقاب أسود، أليست في هذا تحفة فنية لم تخطر ببال سلفادور دالي؟ إضافة إلى ذلك يجب ألا يغيب عن بالنا أن مفتينا الكرام تركوا مرونة كبيرة للمرأة، بما يؤكد على احترام حريتها وتكريمها، لجهة أي عين يمكن استخدامها وأي عين يجب إخفاؤها، اليمين أم اليسار، وهذا يتيح لها التمتع بحرية الاختيار والتنقل بين استخدام العيون للمرأة نفسها. فماذا تريد المرأة العربية والمسلمة أكثر من هذه الحرية؟ وهكذا، وعطفاً على بركات سيل الفتاوى الذي لا ينقطع، يظهر لنا جميعاً أن واحداً من مغانم عصر الثورة المعلوماتية والإعلام الفضائي يتمثل في كشف مأزقنا الفكري المختبئ في طيات بعض الكتب الصفراء، والعقول الصفراء، وتعريضه للعلن ولوهج الشمس. فكل هذه الفتاوى التي ما تكاد تنتهي سخافة إحداها حتى تأتي أخرى تنافسها سخافة وانحطاطاً ما كان لها أن تظهر ويدري بها الناس المصدومون لولا عصر الإعلام الجبروتي الذي نعيشه. لكن ليس ذلك إلا جانباً واحداً من مسألة تثير من المرارات أكثر مما تثير من السخريات. جحافل المشايخ والمفتين والفقهاء الذين يتصدون للفتيا يؤكدون لنا صباح مساء ظلامية عصر الانحطاط الذي يعيشه العرب والمسلمون في هذه الأيام، بمساهمتهم العظيمة. هل وصلنا تاريخياً إلى مثل هذا الانحدار الأخلاقي والديني والثقافي والسياسي والاجتماعي على مدار القرون الماضية؟ من يقرأ فتاوى المشايخ الأشاوس بتأنٍّ وببرود أعصاب يجيب بالنفي: كلا لم نصل إلى مثل هذه الدرجة من الانحطاط. ذلك أن ما نشهده الآن يمثل سريالية مفزعة: نغرق انحطاطاً فيما العالم كله يزداد تحضراً. تتنافس الأمم في رفع مستويات التعليم والتوظيف والعمالة للنساء بكونهن نصف المجتمع، وتعمل على رفع معايير المساواة المهنية بين الرجل والمرأة، ومشايخنا ينظرون إليها ككتلة من الجنس المغري تجلس بلا مبرر في مكان العمل. وحتى يقمعون فرويد المتصابي في رؤوسهم، ويقدمون إبداعاً مهنياً يُنافس الأمم الأخرى، لا يرون من حل سوى أن ترضع المرأة زميلها في العمل! تموج الأرض والسماوات حرية في الإعلام والشاشات والفضائيات وتتكسر سلطات من هم على شاكلة بعض مشايخنا، فلا يرون سوى إطلاق فتاوى قتل أصحاب الفضائيات، عوض أن ينافسوهم بالمادة الجذابة. إذا اعتقدتم أن الأجيال الشابة تتأثر بتلك الفضائيات فذلك لأنكم فشلتم في تقديم بديل مقنع، وعوض أن تلوموا أنفسكم تلجأون للغة القتل. تنتقل البشرية في علاقتها مع الطبيعة والحيوان إلى مرحلة راقية حيث يصبح الرفق بالحيوان عادة متأصلة وليست ادعاء، ويصبح الحيوان مصدر سرور للصغير والكبير. لكن مشايخنا يرون في "الفأر" جندياً من جنود إبليس مجنداً لتدمير الدين والأخلاق. لماذا لم تبدعوا للأطفال نموذجاً يبتهجون به ينافس "ميكي ماوس"، عوض أن تعلنوا الحرب على "فأر" وتهدروا دمه "في الحل والحرم"؟ لكن تبقى الكارثة الكبرى في نظر مفتينا الكبار تكمن في المرأة: أصل الشرور الكونية، والتي لا هم لها إلا إغواء الرجل البريء والسير به نحو جهنم.