قرأتُ قبل أيام محاضرةً للزميل الكبير الأستاذ محمد السمّاك يقول فيها إنّ من أسباب التوتُّر في العقدين الأخيرين بين المسيحيين والمسلمين الظاهرتين: الأصولية، والإسلاموفوبيا (= كراهية الإسلام). ويقصد الكاتب الأُصولية في ديارنا، وكراهية الإسلام في الديار الغربية. وقد رأيتُ بدايةً أنه لا ضَيرَ في ذلك؛ إذ يشجّع على نبذ العنف والتطرف، ويزيد من الحرص على العيش التاريخي والمستجدّ. لكنني من جهةٍ أُخرى كان لا بُدَّ أن أُلاحظ أنّ ذلك غير صحيحٍ على إطلاقه وفيما يتعلق بالأُصولية على الأقلّ. وذلك أنني لا أعرفُ بلداً عربياً تركه مسيحيُّون أو تركته كثرةٌ منهم بسبب اضطهاد الأصوليين لهم. ولكي يكونَ واضحاً ما أقصدُهُ أشير إلى أنّ المشاكل الواضحة الآن بالنسبة للمسيحيين في الوطن العربي، تقعُ في فلسطين والعراق. وفي كلا البلدين احتلالٌ هو السببُ الرئيس فيما أصاب المسيحيين والمسلمين معاً. كان عددُ المسيحيين الفلسطينيين عام 1948 زُهاء 12% من مجموع الشعب الفلسطيني، وهم اليومَ لا يزيدون على 4 أو5%. ويرجعُ ذلك بالدرجة الأولى إلى الاحتلال وما تسبّب به من إجراءات، والتمييز ضد الفلسطينيين، وضيق فُرَص العمل... والتباعُد الثقافي التدريجي بين المسيحيين والمسلمين. لقد نشر الصهاينة حالاتٍ من الفوضى والعنف في الشهور الأُولى لاحتلالهم، فحدث تهجيرٌ كبيرُ من جهة، وحدثت اعتداءاتٌ كثيرةٌ من جهةٍ ثانيةٍ وعلى الأرض والبشر. وهكذا فالذين هُجِّروا عام 1948 إنما هُجِّروا مع المسلمين، وعانوا ما عانوه أو ربما أكثر. لأنَّ السلطات الصهيونية تضغط على المسيحيين المنظورين، وفي نيتها أن هؤلاء يملكون فُرَصاً للهجرة، وسيُهاجرون؛ فتستفيد من الأراضي، فضلاً عما يستفيده الصهاينة لجهة تضاؤل عدد السكان العرب. وقد ذكرت مجلة "تايم" قبل أشهر نموذجين للهجرة المسيحية: القدس وبيت لحم. ففي القدس ما بقي غير خمسة آلاف نسمة من المسيحيين، وهم تابعون لـ14 كنيسة مختلفة. وفي بيت لحم، مهد المسيح، زاد عدد المسلمين إلى الثلثين، أمّا المسيحيون فيبيعون بيوتهم ويُهاجرون. وقد تحدث الصحفيون من الـ"شبيغل" الألمانية إلى السكان عن أسباب الهجرة، فذكروا سببين مهمين: إرادة تعليم أولادهم تعليماً عالياً، والضيق الشديد في فُرَص العمل؛ وبخاصةٍ بعد الانتفاضات والتمردات والخنادق والمضائق والمآزق! وتختلف الإجاباتُ بالعراق اليوم، لكنّ الأصل واحدٌ، وهو الاحتلال. فقد كان مسيحيو العراق عام 1960 أكثر من عشرة بالمائة، وهم اليومَ لا يزيدون على 4% إن لم يمكن أقلّ. وقد كانت هناك هجرةٌ قبل الاحتلال، بسب الحصار والضيق الاقتصادي، أمّا اليوم فهناك 4 ملايين عراقي مهجَّرين خارجياًَ (عبر سوريا والأردن) أو داخلياً بين المناطق. لكنْ لأننا بصدد الحديث عن المشكلة المسيحية بالعراق، فيمكن القولُ إنه لا أثر للأُصولية في التهجير أو التباعُد رغم وجودها وقوتها. وقد كانت هناك أحداث عنف غامضة ضد كنائس ومرافق مسيحية، لكنها ما كانت مؤثّرةً في الغالب. بل إنّ "الصابئة" هم الذين تضرروا من التفجيرات الكبيرة التي حدثت بديارهم. بيد أنّ وضع المسيحيين بالعراق أدقّ من وضعهم بفلسطين في غياب السلطة المركزية أو ضعفها، وليس بسبب الأصوليين. ففي مناطق بشمال العراق يتداخل العرب والأكراد والتركمان والشيعة، ويُحاولُ الأقوى أن يُزيحَ الأضعف، وليس لأسبابٍ دينيةٍ بل عملية. والسلطة المركزية غائبة، لكنّ السلطة المحلية الكردية موجودة، وإن كانت تتصرف بانتقائية. وهكذا يمكن القول إنّ هناك عاملين شديدي التأثير على أوضاع المسيحيين: الفوضى التي أحدثها الغزوان والاحتلالان الصهيوني والأميركي بفلسطين والعراق، وغياب السلطة المركزية أو حكم القانون. ويمكن القول بشكلٍ عامٍ إنّ سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يدفعُ الأقليات للهجرة بوتيرةٍ أسرع من هجرات الأكثريات، لأنّ الأقليات أكثر قدرةً على الحركة، وعلى إيجاد الملاذ الآمن خارج البلاد. ولدينا ثلاثة بلدانٍ عربية تشهد هجراتٍ واسعة من جانب المسيحيين؛ وهي بالترتيب: سوريا ومصر ولبنان. وبالفعل لا يمكن الحديثُ عن تأثيرٍ للأصوليات في ذلك. وإنما هو الضيقُ من سوء الأوضاع السياسية وقلة فُرَص العمل بلبنان. والحالُ الاقتصادية بسوريا. وخليطٌ من الحالتين بمصر: الأسباب الاقتصادية والمعيشية، والسلطة المركزية وحكم القانون. لكنْ في مصر بالذات صعودٌ إسلاميٌّ عامٌّ، ينعكسُ في المناطق الريفية وشبه الريفية توتُّراً تُجاه المسيحيين. وهناك إحصائياتٌ تقولُ إنّ حوالي 40 ألفاً من الشبان والفتيات يتركون دينَهم إلى الإسلام سنوياً بسبب التزاوج. وينظر البعضُ إلى ذلك باعتباره غَلَبةً، بينما ينظر إليه البعضُ الآخرُ باعتباره اندماجاً. وهكذا في الحالات الفاقعة مثل فلسطين والعراق، نجد أنّ السببَ يعود إلى عاملٍ طارئٍ هو الاحتلال في الحالتين. لكنْ في الحالات الأخرى هناك سوء الأوضاع الاقتصادية وغياب حكم القانون، اللذان يتضافران لدفع المسيحيين للهجرة. لكنْ لننظر إلى الأمر من النواحي العامة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. ففي كلّ هذه الميادين نجد المسيحيين يتراجعون. والتراجُع هو بالقياس على ما كان عليه الوضع حتى ستينيات القرن العشرين. والواقع أنه في السياسة والثقافة؛ فإنّ ذلك يعودُ لتراجُع الديمقراطية وحكم القانون أو الانتظام القانوني في سائر أنحاء العالم العربي. فقد كان المسيحيون (وبعض اليهود) مؤثّرين في المجال الثقافي، ومؤثّرين أكثر في المجالات السياسية والإعلامية والاقتصادية والقضاء. وتملكت الدولةُ في الستينيات الإعلام، وتدخلت في الاقتصاد. وجرى الحديث عن ارتباط التفكير الليبرالي بالمسيحيين في مواجهة الراديكاليات القومية والاشتراكية. وفي زمن الاشتراكية جرى إسقاط الوكالات والاحتكارات، وكان المسيحيون يلعبون دوراً مؤثراً فيها، وعندما جاءت علمياتُ التحرير الهيكلي منذ الثمانينيات، استلمت الزمامَ فئاتٌ زَبونيةٌ للأنظمة الحاكمة، وليس الرأسماليين القُدامى! ولا يقتصر التضاؤلُ السياسيُّ للمسيحيين على سوريا ومصر، بل يتناولُ لبنان أيضاً. فالسياسيون المسيحيون بلبنان منقسمون على أمورٍ كثيرةٍ، أفضت إلى نزاعاتٍ مسلَّحةٍ بينهم في ثمانينيات القرن الماضي. وهذا الانقسام والصراع على السلطة ما يزال مستمراًً. ولذا فهم يفقدون من وزنهم السياسي لصالح السوريين تارةً، ولصالح المسلمين اللبنانيين تارةً أُخرى. وبسبب الحريات، والعلاقات الوثيقة بالثقافة الغربية، ما يزال المسيحيون اللبنانيون، رغم عدم الاستقرار وتَفاقُم الهجرة، بارزين في المجالين الثقافي والإعلامي. ولديهم مؤسساتٌ تعليميةٌ عاليةٌ مُزدهرة. وللمصارف المسيحية علاقاتٌ وثيقة بالداخل الخليجي والعربي، وبالغرب. ولو انتظم أمرهم السياسي، لأمكن أن يعودوا لأداء دورٍ مؤثرٍ في العالم العربي في السياسة كما في الثقافة. وفي الخلاصة، إنّ المسيحية العربية بالمشرق تُعاني من مشكلاتٍ تنطرحُ معها مصائرُها. وهي في جانبها الصاعق -كما سبق القول- ناجمة عن عوامل طارئة وقاهرة مثل الاحتلال. لكنّ التطور السياسيَّ والثقافيَّ والاقتصاديَّ العامَّ في الخمسين سنةً الأخيرة، مضى باتجاه تقييد الحِراك الاقتصادي والحريات السياسية والثقافية. وقد تأثّرت بذلك الأقليات الدينيةُ والإثنية أكثر من غيرها. بسبب المواقع السياسية والاقتصادية والثقافية البارزة التي كانت تحتلُّها. ولأنّ الأقليات تميلُ للهجرة عند الضيق أسرع مما تفعلُُه الأكثريات الثقيلة والبطيئة الحركة. وفي المحصّلة يمكن القولُ بالفعل إنّ المسيحيتين الفلسطينية والعراقية مهدَّدتان، ليس من حيث الدور وحسْب، بل من حيث الوجود الديموغرافي أيضاً. أمّا مسيحيات مصر وسوريا ولبنان، فلديها مشكلاتٌ ضخمةٌ أهمُّها الهجرة. وليست لدى المسيحيين بسوريا مشكلةٌ خاصّةٌ، بل المشكلة عامةٌ هناك؛ وهم إنما يهاجرون بحثاً عن عملٍ واستقرار. ولدى مسيحيي مصر ولبنان ظواهرُ نهوضٍ، هي في لبنان أَثبَت وأوضَح. لكنّ الاتجاه العامَّ واحدٌ في البلدين. فهناك كثافةٌ سكانيةٌ إسلاميةٌ، وتجارُها يريدون كل شيء، ولا يطيقون أحدا بجانبهم. وكذلك سياسيُّوها، الذين سبقوا لاكتشاف القدرة على الاحتكار والاستئثار. وتُضيفُ الأصوليات تلويناتٍ قاتمةً على الجوّ المُقبض. لكنها ما تزال لا تلعبُ دوراً مؤثُراً فيه، وإنما اللعبة بين أساطين السياسة والاقتصاد... والثقافة. ولله في خَلْقه شؤون.