"هناك افتراض شائع بين عدد من المثقفين العرب، مفاده أنه لا يوجد إصلاح فعلي في المنطقة العربية، وأن الإصلاح يتطلب حدوث تحولات هيكلية معينة. وقد يكون مبكراً القول إن كان هناك إصلاح حقيقي يتطور في المنطقة أم لا. ولكن ما ينبغي التوقف عنده أن ثمة تحولات فعلية تجري في المنطقة العربية، ترقى إلى درجة التحولات الهيكلية”. بهذه المقدمة الحذرة، قدم د. أحمد جميل عزم، ورقته في ندوة مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية حول التحولات الراهنة في العالم العربي، مارس 2006. اثنان من هذه التحولات إيجابيان، في تقديره، تجري في مجالات الاقتصاد والإعلام، وجميعها تخدم التحول إلى مجتمع ليبرالي. أما التحول الرابع فيسير باتجاه مختلف معاكس... وهو التحول المتمثل في خطر تصاعد التوتر الطائفي في المنطقة في العراق ولبنان ودول الخليج. ويبدي د. عزم في مطلع حديثه ملاحظة قيمة على التناول الإعلامي لقضية الإصلاح، حيث نالت التحولات في المستويات السياسية العليا، كالانتخابات ومؤسسات الدولة الرئيسية والسلطة السياسية، جل الاهتمام، بينما لم تنل مستويات ومجالات أخرى التناول والتحليل المتوقع. ولا زلنا بلا شك في حاجة ماسة إلى مساهمة الاقتصاديين والاجتماعيين والمؤرخين والإعلاميين والمفكرين عموماً في تحليل ما يجري في العالم العربي منذ كارثة سبتمبر 2001 على الأقل. مبعث تفاؤل د. عزم في المجال الاقتصادي أن عملية الخصخصة ماضية في مسارها، كما أن باب الاستثمار قد فتح للأجانب، واتسعت حرية التملك في عدة مجالات كانت محتكرة. ويلاحظ الباحث أن التحولات الاقتصادية لا تتم على نحو متواز في الدول العربية، إذ تشهد الدول الخليجية تحولات أسرع من الدول الأخرى، ويقدر خبراء أن استمرار نسب النمو الراهنة ستجعل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مجتمعة، سادس أكبر اقتصاد في العام عام 2025، بعدد سكان يبلغ 90 مليون شخص. وتشمل التحولات الدول العربية الأخرى كذلك حيث تتراجع ملامح الدولة الريعية في مجالات دعم السلع الرئيسية ومشتقات البترول، والتوقف عن سياسة التعليم المجاني وكذلك في الاتجاه نحو الخصخصة وتوسع القطاع الخاص والشركات المساهمة، وهذا ما نراه مثلاً في الأردن ومصر وغيرهما. ومن الأمور اللافتة للانتباه أنه مع تنامي الاتجاه للخصخصة تتزايد فرص التواصل بين الشركات وقطاع الأعمال دون المرور بالحكومات، مما يوضح القدر الذي تلعبه الشركات في دمج المنطقة بالعولمة الاقتصادية. كما أصبح القطاع الخاص مدخلاً للأفراد يسمح لهم بالاشتراك في عملية صنع القرار. ومن النقاط التي لا يشير إليها الباحث الفاضل التأثير الكبير للدول العربية النفطية وبخاصة دول الخليج على اقتصاديات وتحولات الدول العربية الأخرى من خلال علاقات العمالة الإنتاجية والتحويلات المالية والاستثمارات المباشر، وكلها معطيات تصب في مجال التحول الاقتصادي الذي يؤكده الباحث. ثاني المتغيرات الإيجابية في مسيرة الإصلاح بموجب تحليل د. عزم، هو التحول الكبير في الإعلام العربي من خلال القنوات التليفزيونية الفضائية وانتشار الإنترنت، حيث بلغ عدد المحطات أو القنوات الفضائية العربية في مطلع عام 2005 نحو 150 محطة. فبفضل التطور التكنولوجي أصبح الجمهور المستهدف يتكون من عشرات الملايين، وصار للبرامج السياسية والغنائية والدينية جمهور في كل دول العالم العربي. كما سمح تطور إمكانيات البث الفضائي ببروز القطاع الخاص مما أضعف سلطة الدولة على الإعلام، وأصبح التحكم فيما يسمح للمواطن معرفته أو عدم معرفته غير ممكن. وكل هذا شكل قوة دافعة تفرض الإصلاح. أما الوجه السلبي في مسيرة التحولات كما يراها الباحث، فيكمن في تنامي الطائفية! ولا شك أن د. أحمد عزم قد بنى توقعاته على قدر كبير من المعطيات الموضوعية، وحاول أن لا يندفع في تفاؤله! ولاشك كذلك أن التحولات التي أشار إليها في غاية الأهمية والتأثير. ولكن التحولات الاقتصادية مثلاً لا تزال حتى في مجال تنامي دور القطاع الخاص بيد الدولة، ونحن بحاجة الى مرور وقت طويل قبل أن يطور القطاع الخاص أدواته السياسية، وتوجهه التنموي المستقل والبناء، ووصول تأثيره الى الكتل النيابية والتعليم، وتوفير مجالات العمل على نطاق واسع وغير ذلك. ولا يزال موقف التيار الديني أقل بكثير من المطلوب، وعملية التحدي داخل صفوف جماعاته الكبرى ضعيفة. وتصح بعض هذه الملاحقات في مجال الإعلام كذلك، حيث لا يستطيع الإعلام التليفزيوني وحتى الصحافي الاستقلال مادياً وسياسياً عن ضغوط الحكومات العربية وغير العربية. ولكن دعنا نتفاءل وننتظر!