أتاحت لي الدراما التليفزيونية التاريخية التي تُبث في رمضان فرصة للحوار الواسع مع عدد كبير من المثقفين على موقع صحيفة "المصري اليوم" حيث نشرت مقالين عن جيل جمال عبدالناصر وأحلام النهضة المصرية منذ القرن 19. أهم ما لاحظته في حوار جماهير المثقفين هو سمة التحيز لشخص زعيم بعينه، وهو التحيز المصحوب بموقف التحامل على الزعماء التاريخيين الآخرين. كان حديثي عن جيل جمال عبدالناصر منصباً على إيضاح أن ما أبرزته الدراما من مشاركة "التلميذ الصغير" جمال ورفاقه في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني ضرباً من المبالغة، كما تصور بعض المعلقين. ورغم أنني أصغر على الأقل بعقدين من جيل عبدالناصر، فلقد قدمت شهادتي التاريخية كتلميذ في المرحلة الإعدادية عشت في مدينة بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وشاهدت تجارب عديدة لتلاميذ صغار يندفعون إلى التظاهر ضد قوات الاحتلال ويدفع بعضهم حياته كما حدث لزميلي في مقعد الدراسة حسن سليمان حمود الذي أصيب بطلقة في القلب وهو يقف إلى جواري. كانت الواقعة في أحد أيام شهر نوفمبر من نفس العام أثناء استقبال أطفال وفتيان المدينة لقوات الطوارئ الدولية، التي جاءت تمهيداً لانسحاب القوات البريطانية والفرنسية. لقد حرصت على توثيق شهادتي، ودعوت من يشاء إلى زيارة مدرستنا ببورسعيد، وهي مدرسة القناة الإعدادية حيث ما زال النصب التذكاري لشهداء المدرسة يحمل اسم صديقي الصغير. رسالتي إلى المثقفين والقراء عامة، كانت أن الجيل الجديد من الإعلاميين والكُتاب الذي لم يعايش تلك التجارب من حقه أن يتصور أن خروج جمال عبدالناصر الصبي في مظاهرة نوع من المبالغة الدرامية. كذلك فإن واجب الأجيال الأقدم من الكُتاب، والتي شهدت الحقيقة يقضي أن تقدم شهاداتها لتصحيح الصورة وتقريب حقيقتها إلى عيون الأجيال الجديدة التي تعيش عصراً مختلف السمات والمشكلات. المذهل أن المثقفين الذين قرروا التعليق على المقال انقسموا فيما بينهم ودخلوا في عراك فكري حول تجربة حكم عبدالناصر، فمن قائل إنه صاحب إنجازات عظمى وحسب، ومن قائل إنه صاحب أخطاء كبيرة وحسب. لقد تبدت حالة التحيز الفكري عندما بدأ بعض المتحمسين إلقاء التهم على خليفة ناصر، وهو الرئيس السادات، وتفاقم الأمر عندما قال البعض: إن كل التاريخ المصري السابق على عبدالناصر كان سيئاً. لقد وجدت أن دوري المطلوب أصبح يتجاوز تقديم شهادة عن ظروف حياة الأجيال الأقدم، وكان لابد من أن أوجه دعوة لالتزام الإنصاف التاريخي للزعماء السابقين. من هنا طالبت القراء بحشد طاقاتنا الفكرية في اتجاه القراءة النقدية الإيجابية للتاريخ. قلت إننا لن ننجح في بناء حلم مستقبلي أفضل للنهضة المصرية ما لم نعترف لكل حاكم مصري سابق بإنجازاته لنواصل تحقيقها قبل أن نهوي بالمطارق على إخفاقاته، التي نريد أن نتجنب وقوع مثلها مستقبلاً. وبالتالي قلت من يستطيع أن ينكر أسرة محمد علي أنها نقلت المجتمع المصري من انحطاط العصور الوسطى؟ من ينكر أن علي مبارك الفلاح المصري الذي سافر الى بعثة لتعلم الهندسة العسكرية في فرنسا كزميل للخديوي إسماعيل قد استمد قدرته على تحديث القاهرة وإطلاق نهضة تعليمية من زميله عندما تولى حكم مصر عام 1863؟ وبالمثل من ينكر أن الكتلة السكانية العظمى من الفلاحين كانت مهملة ومعدمة تأكلها البلهارسيا وتشرب من مياه الترع الطينية؟ ومن ينكر أن جمال عبدالناصر قد انتشل هذه الطبقة من بؤسها ووفر لها المدرسة والمستشفى والمياه العذبة النقية والكهرباء والحد الأدنى العادل للأجر. ومن ينكر فضل السادات في حرب أكتوبر وتعمير صحاري مصر وشواطئها بالمدن؟ فهل يمكن أن ننظر للتاريخ بإنصاف من أجل المستقبل؟