لنعترف بأنه مفقود في ثقافتنا -أو في أحسن الأحوال هو ضعيف جداً. تنشئتنا وتربيتنا لم تعودنا على الحوار، النساء في عالمنا أكثر ديمقراطية وقبولًا للحوار من الرجال. التأتأة مشكلة كلامية يعاني منها الذكور أكثر من الإناث -وللموضوعية فتلك حقيقة عالمية. في مجالس النساء تتكلم البنت بين النساء بحضور أمها دون أن تُقمع، أو لنقل إن درجة القمع تكون أقل حدة من القمع الذي يواجهه الطفل الذكر في مجالس الرجال. "الرجولة" تعلمك أن تكون صامتاً في صغرك أمام الكبار، وإن تكلمت خزروك شزراً أو زجروك، أو ربما ما هو أسوأ. سيرددون عليك قول النصافي: يا علي لا جيت العرب لا تجي ديش ** خبلن إليا جاب السوالف سردها سيقولون لك إن "الكلام من فضة، لكن السكوت من ذهب"، وسيرددون عليك أن "البربرة" في المجالس معيبة. يحتار الطفل بين الكلام وعدمه، ويضيع الخيط الفاصل ما بين التعبير عن الرأي والكلام وبين "الثرثرة" والبربرة. الحدة في حواراتنا السياسية تعكس عمق ضيقنا بالحوار مع الطرف الآخر، الحوار والجدل والنقاش والصراع والنصر والهزيمة تعني الشيء نفسه تقريباً -ليس في قواميسنا- ولكن في ممارستنا السياسية وثقافتنا الحوارية. لا أحد يحاور وفي ذهنه أنه سيستفيد من الطرف الآخر وإن اختلف معه ولو بالتعرف على رأيه ليضيفه إلى معلوماته. الذهاب إلى طاولة الحوار والذهاب إلى حلبة المصارعة تحملان المعنى نفسه. لا أحد يحاور وهو يقول لنفسه: إنني لا أضيف لمعرفتي شيئاً مما أقوله، فما أقوله معروف لي، وترديده لا يزيد معرفتي شيئاً، إن ما أسمعه هو ما يضيف لي ولو لم أتفق معه. في لبنان حوار بين الأطراف المسؤولة -دون استثناء- عن أزمة تعايش طوائفها، وهو حوار لن ينتهي بغير المعتاد: تصريحات جميلة وصور تذكارية ومصافحات بروتوكولية. لكن ما في النفوس لن يزول بالحوار. وقد شخصت الأعين إلى بيروت وفي طرفها "حول"؛ لأن الأزمة والحوار الحقيقي يجب أن يتم في عواصم تردد ليل نهار: "هذا شأن لبناني خالص، لا نتدخل فيه". وهو كذب صراح يعرفه حتى الطفل الرضيع، وبالمناسبة فإن رضيع الإبل من صغارها يسمى حواراً أيضاً. عن المصارحة قبل المصالحة تحدث محمد رعد -نائب حزب الله- بعد لقائه سعد الحريري. لكن ما يخيف اللبنانيين هو "المساطحة"، أي تسطيح الأمور وعدم الغور في أسباب الفتنة الدموية التي أشعلها "حزب الله" في أبريل الماضي. أصدق من عبر عن هذه المساطحة هو مواطن لبناني قال لمحطة فضائية: "ما بدنا يتباوْسوا وترجع الأمور متل ما كانت"!!. في بغداد حوار من نوع آخر، لكنه لا يختلف في جوهره عن الحوار اللبناني. ذلك أن العراقيين لبْننوا بلادهم منذ إقرارهم بالمحاصصة، فدخلوا في متاهات النِّسب والمناصب لهذه الطائفة، أو تلك القومية، أو غيرها. توصل البرلمان العراقي الأسبوع الماضي إلى قانون ناقص للانتخابات القادمة. دخل البرلمان قبلها في جدل عقيم لن يحله تأجيل مسألة كركوك، والتي هي مربط الفرس. حل كركوك يعني عرقنة وليس لبننة العراق، ولكن حل معضلة هذه المدينة يمتد من دمشق إلى أنقرة وواشنطن وطهران والرياض وعواصم أخرى ليست بينها العاصمة العراقية. وعليه، فإن تأجيل حسم أمر المدينة حتى نهاية يناير القادم إنما هو إطالة للأزمة، بينما يخلق الأكراد واقعاً جديداً عنوة في المدينة، ويستمر التطهير العرقي فيها والمضايقة المستمرة للعرب والتركمان. الحيرة تلازم حوارنا، لكن غياب الحوار يعني غياب الأمل، وغياب الأمل يؤدي إلى اليأس، واليأس قد يقود للانتحار، فلنتحاور، بدل أن ننتحر.