ثمة حديث متكرر في لبنان عن المصالحة، وهو الحديث الأهم، إذ بين الحديث عن الفتنة والمشاكل المتنقلة من مكان إلى آخر والغرق في التحليلات والتأويلات والتفسيرات عن الأسباب والأهداف والمخاطر واللاعبين والنتائج، والحديث عن ضرورة لجم الفتنة والحرص على وحدة الموقف وتجنيب البلاد المزيد من الكوارث والخسائر المادية والبشرية، لا شك أن المسؤولية الكبرى تقع هنا، أي في موقع مواجهة الفتنة التي تنطلق من قرار المصالحة، وهو أشجع القرارات، والمصالحة مع الذات، هي أهم المصالحات، وفاتحة المصالحة مع الآخر. نعم، التخريب سهل، والفتنة سهل إيقاظها وإشعال نارها. أما إطفاء النار، وحصر الخسائر ولجم الفتنة فهو الأصعب. والأصعب الأصعب هو العمل لاتقاء الفتنة وتجنب الانقسام والخسارة من الأساس. والأصعب هي المصالحة مع الذات؛ لأنها تنطلق من المصارحة مع الذات. والإنسان مهما كبر وعلا شأنه، فهو ضعيف أمام نفسه وأمام الله، ضعيف أمام نفسه؛ لأنه لا يستطيع إخفاء شيء عليها. قد يبرع في فن المناورة أو المكابرة أمام الناس وفي قيادتهم، قد يتمكن من إخفاء مشاعره ومعلوماته، وقد يتمكن من تقديم نفسه بصورة مغايرة تماماً لما في داخله، لكنه مكشوف أمام ذاته. وهنا، إذا كان ثمة خطأ فهو يقلقه، يضعفه عندما يكون وحيداً. قد يتصرف أحياناً بردات فعل خطيرة إذا ما مارس سياسة الهروب إلى الأمام في مكابرة مكشوفة. قد يتخذ قرارات لا تنتج إلا المزيد من المخاطر، وهذا ما يسمى السياسة الانتحارية المتهورة التي تحمل كل أشكال المغامرة والمقامرة بالناس ومصالحهم من أجل الأنا الذاتية وهذا أمر سهل. لكن الأصعب والتحدي الأكبر هو الامتحان أمام الضمير، أمام الذات، بشفافية تامة، لاتخاذ القرار ثم الوقوف أمام الناس الذين يتولى القائد شرف قيادتهم. هنا المصارحة الحقيقية مصارحة العقل والضمير والنفس. مصارحة كل الحواس. لمصارحة كل الناس. هنا المسؤولية. هنا الكرامة. هنا الصدق والوفاء والشجاعة. وهنا جوهر القيادة. القيادة التي تميزها هذه الصفات عن غيرها، والتي بطبيعة الحال قد تثير الكثير من التساؤلات والتحليلات في مقاربات موقفها من هنا أو هناك. أقول ذلك تعليقاً على المصالحات الجارية في عدد من المناطق اللبنانية، والتي انطلقت فكرتها ومبادرتها الأولى من الجبل إثر أحداث مايو الماضي المشؤومة. فإذا بقيت المصالحات خطابات وتمنيات لإشاعة أجواء من الهدوء لتطمين الناس دون أن تصل إلى العمق الذي يخبئ كل عوامل التوتر، فهذا أمر خطير، ولا أنفي أن ثمة شيئاً من الحقيقة في هذا الجانب يغطي على ما يجري... وبالتالي فإن عوامل القلق لا تزال قائمة. وإذا لم تنسحب المصالحات وبسرعة على مستوى الناس في الأحياء والقرى ومراكز العمل والدراسة لتعود الحياة طبيعية فيفطرون مع بعضهم، ويتعاونون مع بعضهم، ويستعيدون لغة الحياة اليومية المشتركة بين بعضهم، وتهدأ نفوسهم في بيوتهم، حيث الزيجات المشتركة والأبناء الشرعيين منها، وهي حالات مهددة بالتفكك وقد شهدنا شيئاً من ذلك في الأسابيع الأخيرة، فإن هذا سيؤدي إلى مزيد من التوتر والعنف والفوضى، لماذا الحديث عن مصالحات الآن وقلق من توتر في الوقت ذاته؟ هل نضجت فكرة المصالحة؟ هل هي قرار ذاتي فردي ثم جماعي لبناني فقط؟ وهل المعنيون مهيأون لها وللقرار؟ إذا كان الجواب نعم، فماذا ينتظرون؟ وإذا كان الجواب لا فماذا يفعلون؟ وبالتالي إلى أين سيأخذون لبنان؟ هنا تقع الشجاعة، هذا هو مكانها. هنا ميزة الرجال الكبار. الرد على السؤالين الاحتمالين. فإذا كان القرار عندهم فليقدموا بعد المصارحة والمصالحة مع الذات في اتجاه المصارحة والمصالحة مع الآخر. ومنطلق المصالحة والمصارحة الاعتراف بالخطأ من جهة وبالحق من جهة الآخر، ولو فعل كل واحد من قادتنا هذا الشيء لتجمعت الحقوق المشتركة في مكان والأخطاء المشتركة في مكان آخر. ولأقدمنا على تكريس حقوقنا وانطلقنا لمعالجة أخطائنا. لن نصل إلى إجماع حول كل الأمور، وهذا أمر بديهي وطبيعي في بلد مثل لبنان، لكن إدراكنا واعترافنا بالأخطاء والعمل على معالجتها، تجعلنا أكثر قدرة ومرونة ومعرفة ومسؤولية وأمانة في إدارة اختلافاتنا ومعالجة القضايا التي لم نتفق عليها. أما إذا كان قرار المصالحة عند غيرنا، فماذا نفعل نحن؟ وأنا أدرك أن ثمة تشابكات وتداخلات كثيرة في عناصر القرار بين الداخل والخارج، خصوصاً بعد ما جرى في السنوات الماضية، يضاف إليها كمّ من التجارب في لبنان في مثل هذه الحال. لكن السؤال ماذا نفعل؟ هل نسلم كل شيء لغيرنا؟ هل نستطيع القول: إلى هذا الحد وكفى. هل يمكن بذل جهد، أم أن عوامل التأثير علينا أكبر وبالتالي عملية ربطنا محكمة المفاصل ونحن عاجزون عن فعل أي شيء؟ أدرك تماماً خطورة التزام أي فريق نحوالخارج. وبالتالي أدرك صعوبة الخيار والتحرك، وأدرك تاريخ البلد بمعنى أن كثيرين سقطوا شهداء عندما حاولوا التحرر من التزامات معينة وجدوا مع الوقت أنها غير قابلة للتحقق، بل ستؤدي الى مزيد من الغرق. وبالتالي أدرك الظروف المحيطة بأصحاب مراكز القرار كلهم وبحجم التأثيرات عليهم وعلى حساباتهم وتحركاتهم ومواقفهم بنسب متفاوتة، ولذلك نرى جميعاً حديثاً عن المصارحة والمصالحة وتشديداً على التمسك بالمواقف ذاتها وتحييداً لأي إشارة إلى خطأ ارتكب من هنا أو من هناك مما يجعلني أقول: كل هذا ليس مصالحات، ويجعلني أخشى أكثر على الأيام المقبلة. فما نحن فيه اليوم أقرب إلى تهدئة في انتظار العاصفة الدولية الإقليمية المقبلة بعد استحقاقات انتخابية أميركية واستحقاقات سياسية أخرى في المنطقة قد تغير مجرى أحداث كثيرة، وتقلب معادلات، ولا بد لكل فريق أن يعرف كيف يتعاطى معها. وهذا يفترض مرحلة من الانتظار. من المفيد أن تمر دون أثمان تدفع في لبنان. ومع محاولات تحصين كبيرة لتجنب نتائج مرور الاستحقاقات وانعكاساتها على بلدنا. وإلا إذا وجد المتصارعون الكبار والإقليميون أن المكان الأفضل لتبادل الرسائل بالعنف والدم والفوضى هو لبنان فلن يقفوا عند "الأرزة الخالدة" و"لبنان الأخضر" "ولبنان السياحة" ولبنان الــ6000 سنة، أو لبنان الــ10425 كلم2 أو الحرية والسيادة والاستقلال والمقاومة بكل أشكالها. إنهم سيستهدفون لبنان، وسيكون اللبنانيون الوقود في هذه اللعبة، وسيخسر الجميع. لذلك، الجهد المطلوب، يجب أن ينصب لتكريس مصالحة حقيقية بين الناس، وعلى مستوى القيادات عنوانها حماية لبنان من الانهيار، الذي إذا ما حصل لن يكون أحد بمنأى عن نتائجه الكارثية مهما امتلك من قوى وعناصر مالية أو عددية أو عسكرية أو امتدادات خارجية بعيدة أو قريبة! هذا هو أيضاً مفتاح أو مدخل المصارحة والمصالحة مع الذات ومصالحة العقول.